يا أيها المدثر لديك عمل كثير فقم، اترك الدثار وانهض، لديك نذارة للخلق فقم، كان الحبيب ﷺ متدثرا يرتجف، يدرك بعض أبعاد ما هو مقبل عليه، فقد كان الوحي صريحا واضحا، وكلام جبريل عليه السلام عقبه أكثر صراحة ، فجبريل من الملائكة ، والحبيب رسول الله ﷺ إلى الخلق.
لكن الأمر جليل وعظيم، وأكبر مما حسب أو ظن، والمخاوف شتى، لا يطيق أن يوصف بكونه شاعرا أو مجنونا، كلاهما ينتميان لوضع غير عقلاني الأول يغوص في المجاز، والثاني خارج العقل مطلقا.
المدثر ملتف بالدثار يستجمع قواه، فانتشلته الأوامر التالية من هذا الحال لواقعه الجديد، ومهمته المقبلة.
المدثر عليه أن يقوم فينذر، صيغة الأمر واضحة وجلية القيام حركة وموقف من كل ما يجري، وهو ما يتضح في الآتي: انذر، مواجهة الواقع تحتاج النذارة أكثر من البشارة، فلا شيء في الواقع يدعو لبشارة تجلب التراخي والتواني، بل النذارة التي تحقق الاستيقاظ والتنبه، فالقوم في الأصل متراخون مطمئنون فهم سدنة البيت وأولاد إسماعيل، تجار مرموقو السمعة، وقى الله بلدتهم بطير أبابيل.
والنذارة تقتضي عقوبة في الدنيا والآخرة على أمر ما، ولهذا جاء الأمر تالية بتكبير الله، وتكبير الله ليس لفظا بل معناه أعمق وأشمل، فأن تكبر الله وحده، معناه أن تلبي الله وحده، وتعبد الله وحده، وألا يفوق قدر الله عندك أحد، وجاء الأمر بلفظ الرب لا بلفظ الجلالة لتذكير القوم بأن الكون يقول لهم ربي واحد، وأكبر من كل شيء، ولأن لفظ الرب يسع كل ما يهم القوم في ذلك الحين، ويسع كل قوم في كل حين من هم الدنيا.
والتكبير إشارة للصلاة، والصلاة مقدمتها الطهور، فلا مقدمة تليق برب أكبر من كل شيء إلا الطهارة، وتطهير الثياب دال على أن الإنسان مهما تبدل ظاهره ففطرته نقية طاهرة، وإن ارتدى مختلف الثياب، فالإنسان لا ينجس، لكن ثيابه يعلق بها النجس، فينبغي تطهيرها، وتذكير بوجوب استمرار التطهير كلما تجدد الدنس، حيث نجد أن الثياب تتبدل بتبدل أنماط الحياة واحتياجاتها، وفي كل مجال منها دنسه ووجب لهذا أن يكون لكل مجال طهارته، ولا ننس أن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
من هذا الباب أمر بهجر الرجز، والهجر ابتعاد ومباينة عن الرجز، وتشمل كل فعل يقود لهجر الرجز من الإقلاع، والترك التام، واتخاذ كل تدبير يحول بين العبد وبين مقاربة الرجز، مع بغض هذا الرجز، وكراهيته، وهذا متمم لطهارة الثياب، فهجر الرجز المعنوي والحسي تتميم لطهارة الظاهر والباطن من أدران الماضي.
أما بعد كل هذا الجهد الجهيد، فينبغي ألا يمن العبد لا على من يدعوهم، ولا من أرشده، فيستكثر عمله، ويتوقف بل عليه المواصلة والدأب والاجتهاد.
لذا يأتي الختام، بالأمر بالصبر للرب، وهذا الختام مشير لحجم العمل، وطوله حتى يحقق أهدافه، فبعد كل الأوامر السابقة أمر بالصبر، بالصبر على إنفاذ الأوامر، والصبر عن مخالفتها، والصبر على كل ما يحصل نتيجة لها من إيذاء ونصب.
وبهذا البرنامج انطلق ﷺ لتتالى الأوامر بعد ذلك في مسرة الدعوة التي بدأت حينذاك سرية، وهادئة لا تحتاج تفصيلات أكثر من الذي ورد في هذا المفتتح السريع الإيقاع، والمتتابع بغير تعقيدات لتنمو الفئة المؤمنة نموا وئيدا، وتستنير الأمة لاحقا بثمرات هذه التوجيهات بغير أن تلزم نفسها بحال الفئة المؤمنة حين نزول الآيات.