شحنت كتب أصول الفقه قديما وحديثا ببعض التقسيمات للأدلة، فعلماء الأصول يقسمون أدلة التشريع من حيث جهة النظر إليها ، فمن حيث النقل والعقل، هناك أدلة نقلة وأخرى عقلية.
والأدلة النقلية: هي التي يكون جهد الفقيه فيها النقل وليس الإصدار، فالفقيه ينقل الآية من الكتاب، أو الحديث من السنة، أو ينقل إجماع الفقهاء، أو ينقل قول الصحابي، أو ينقل شرع من قبلنا..
ولا يعني هذا أن الأدلة النقلية لا اجتهاد فيها للمجتهد، هذا غير صحيح، لأن عمل المجتهد هو الاجتهاد في فهم الأدلة نقلية كانت أو عقلية، لكنها وصفت بالنقل، لأنها ليست صادرة من المجتهدين، بل طريقها ابتداء النقل، ويدخل فيها الاجتهاد أيضا.
والنوع الآخر:الأدلة العقلية، والتي منشؤها من العقل، مثل: القياس، والاستحسان، والاستصلاح ( المصلحة) وسد الذرائع وفتحها، والعرف، وسميت عقلية؛ لأن طريق إنتاجها هو العقل، ولكنه ليس مطلق العقل، وإنما المقصود به العقلي الاجتهادي، أو العقل الفقهي..
وتقسم الأدلة من جهة الاتفاق والاختلاف إلى أدلة متفق عليها، وأدلة مختلف فيها.
الأدلة المتفق عليها: هي الأدلة التي اتفق الفقهاء على حجيتها من حيث الجملة، وليس من حيث المباحث، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمن حيث الحجية الكلية هي حجة يستدل بها في استنباط الأحكام، والخلاف فيها ضعيف.
دليل القرآن: أما من حيث المباحث، فكثير من مباحث الكتاب والسنة والإجماع والقياس مختلف فيها، فالقراءة الشاذة مختلف في حجيتها وهي تتعلق بالكتاب، وقراءة الفاتحة بغير العربية محل خلاف، ونسخ القرآن بالسنة والعكس فيه كلام طويل الذيول بين العلماء.
دليل السنة: وكذلك مباحث السنة، كأحاديث الآحاد، وتعارضها مع ظاهر القرآن، والاحتجاج بالحديث المرسل، والعمل بخبر الواحد إذا خالف القياس، وقبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى، ورد الحديث لإنكار الراوي له أو لعمله بخلافه.
دليل الإجماع: وكذلك هناك خلاف كبير بين الأصوليين في مباحث الإجماع، بداية من حصول الإجماع، وهل هو في زمن الصحابة فقط أم في زمن القرون الثلاثة الفاضلة، أم هو فيما بعدها من القرون، وإجماع أهل المدينة، حجة عند مالك عند غيره من المذاهب.
دليل القياس: وكذلك هناك اختلاف كبير في مباحث القياس، ابتداء من حجيته، والاختلاف في مباحث العلة، وجريان القياس في الحدود والكفارات، وجريان القياس في الأسماء اللغوية، وكل ذلك قد ترتب عليها اختلاف كبير في المسائل والفروع.
النوع الثاني: الأدلة المختلف فيها، كقول الصحابي، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والعرف وسد الذرائع وفتحها وغيرها من الأدلة التي اختلف الفقهاء في أصل حجيتها، وليس فقط في مباحثها..
الاختلاف الأصولي داخل المذهب:
وهناك نوع آخر متفرع عن ذلك، وهو الاختلاف داخل المذهب الواحد في الأخذ بالأدلة نفسها، كالاختلاف حول الإجماع عند الإمام أحمد، والاختلاف حول قول الصحابي عند الشافعي، والاستحسان عند الشافعية والمالكية، والقياس عند الظاهرية، فقد أخبرنا شيخنا الدكتور محمد بلتاجي – رحمه الله- أنه أحصى أكثر من مائة مسألة في المحلى لابن حزم أخذ فيها بالقياس…
والذي يبدو لي أن الاختلاف لم يحرر أصوليا بشكل كاف، وأنه ما من مذهب من المذاهب القديمة إلا وقد أخذ بكل الأدلة المشتهرة، والتي يطلق عليها ( الأدلة المختلف فيها)، وأن الغالب أنها حجة، ولكن السبب في تدوين أنها خلافية ما يلي:
أولا- الاختلاف في تعريف الدليل المختلف فيه أصلا، فالاستحسان عند الشافعية الذين ينكرونه مثلا، والذي نقل عن الشافعي: “من استحسن فقد شرع”، هو غير الاستحسان الذي قال به الحنفية والمالكية، بل أحصى كثير من العلماء عمل الشافعي نفسه بالاستحسان في مواطن.
ثانيا- أن هناك اختلافا في درجة العمل بالدليل الذي يطلق عليه ( مختلف فيه)، فهناك من يوسع بالعمل بالدليل، وهناك من يضيق العمل به.
ثالثا- أن هناك فرقا بين التقعيد والتنزيل في المذهب الواحد، فلو تتبعنا الاجتهادات الفقهية المبنية على الأدلة المختلف فيها عند الإمام الواحد، لوجدنا فرقا كبيرا بين التأصيل للحجية، وبين التطبيقات التي شحنت في كتب المذهب بالعمل بهذا الدليل..
رابعا- أن الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى رتبة الدليل في المقام الأول، كقول الصحابي، هل يقدم على القياس أم لا؟ وأيهما يقدم قول الصحابي أم الحديث الضعيف، وهكذا.
وهذا يفتح بابا كبيرا لأطروحات الماجستير والدكتوراه، فيمكن أن ترصد أصول كل مذهب، وتنظر الأدلة المنكورة في المذهب، وتدرس دراسة علمية، حتى يتبين الموقف الحق عند الإمام، فيؤخذ مثلا ( الاستحسان عند الشافعية)، و( المصالح المرسلة عند الشافعية)، و(قول الصحابي عند الشافعي في الجديد)، و(الإجماع عند الإمام أحمد)، وهكذا، وهو مما يمكن أن نطلق عليه ( فقه المراجعات الأصولية).
الأدلة المختلف فيها في الاجتهاد المعاصر
أما في الاجتهاد المعاصر، فلا نكاد نرى اختلافا يذكر في حجية الأدلة المختلف فيها، فالمتتبع للفقهاء المعاصرين واجتهاداتهم يجد أنهم يعملون بكل الأدلة التي كان يطلق عليها قديما ( الأدلة المختلف فيها)، فالكل يأخذ بالمصالح وإن اختلفوا في العمل بها ضيقا وسعة، والكل يعمل بالاستحسان مع اختلاف درجة العمل، وهكذا.
وعلى هذا الكلام، أرى نقض نظرية الأدلة المختلف فيها، وأنه لا وجود لها عند التحقيق، وأنه لابد من تحرير محل النزاع عند الحديث عن أي دليل من الأدلة، وأن الإطلاقات العامة في الأصول ما ينبغي وجودها، بل يجب التثبت من القول بعدم الحجية، وأن يحرر محل النزاع في دليل من الأدلة التي كان يطلق عليها قديما (الأدلة المختلف فيها)، فنحن اليوم قد وصلنا إلى (أدلة الاجتهاد) وقد توسعت بإضافة القواعد الفقهية والأصولية، والمقاصد الشرعية، وهذا يعني أنه ينبغي إعادة النظر إلى بناء نظرية التدليل الأصولي من جديد، تحريرا لمحل النزاع قديما، ورصدا من الاجتهادات المعاصرة.