عودة الخلق إلى رحاب الحق مشروع طموح، وحركة حياة تنتصر للإنسان في مقابل الفوضى و الجهل والاغتراب. لكن تحقيق العودة بالشكل الذي يضمن راحة الإنسان وسعادته، رهين بدعوة تقوم على الحكمة، والموعظة، والجدال بالتي هي أحسن. لذا كانت إحدى مهام خاتم المرسلين
ﷺ، أن يعهد بهذا الذخر الإلهي للعلماء من أمته، وأن تنفر طائفة لتتفقه في الدين، وتتعلم حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله، كي تستمر الدعوة على محجة بيضاء. إلا أن الخصومات والخلافات – عبر التاريخ – لعبت دورها في تجريد النصوص من هيبتها الخاصة، ومنها الحديث النبوي؛ فتشكلت ثقافة مجتمعية تضفي على النوازع والأهواء صبغة دينية، لتتبلور لاحقا ضمن حركة مدروسة لوضع الأحاديث، تستهدف قواعد الإسلام وأسسه، وتثير الشك والاضطراب داخل المجتمع. وقد عّبر عن هذه النزعة البغيضة أبو العوجاء، حين أخِذ لتُضرب عنقه فقال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحَرّم فيها وأحلّل. غير أن ما يبدو مثيرا لكل من يبحث في السياق الاجتماعي والسياسي لظهور الأحاديث المكذوبة، أو “ا
لموضوعات” كما يسميها
ابن الجوزي في مصنفه الشهير، هي فئة من الكذابين الغيورين على الإسلام، ممن ينتسبون لحركة تزييف النصوص الشرعية، وتلويث الفضاء المعرفي الإسلامي بعشرات الآراء الفقهية الغريبة، والافتراضات الشاذة. ضمن قائمة المطلوبين لدى حُراس علم الحديث، يرد اسم نوح بن أبي مريم، الذي ينعته ابن حبان بأنه نوح الجامع الذي جمع كل شيء إلا الصدق. فالرجل كان فقيها جامعا للعلوم، وتولى قضاء “مَرْو” زمن الخليفة جعفر المنصور، إلا أنه لم يتورع عن الإسهام في حركة تزييف الأحاديث، والتخصص في فرع لا تزال سمومه مبثوثة حتى اليوم في مجالس الوعظ، والكُتيبات الصفراء التي تغذي عقول البسطاء من العامة. اشتهر نوح بإلصاق الفضائل بكل سور القرآن الكريم، فكان يضع للحديث المكذوب سندا متينا، ينتهي إلى ابن عباس عن طريق عكرمة بن أبي جهل، أو يرفعه إلى
أبي بن كعب، حتى يوهم الناس بصحته، ثم يرتب لكل سورة فوائد جليلة. ولما عاتبه الناس على ذلك قال: إني رأيت اشتغال الناس بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، وإعراضهم عن القرآن، فوضعت هذه الأحاديث حسبة لله تعالى !
وما أغربها من حسبة !
إن تبرير الوسيلة المنافية للقيم والدين قبح معرفي، ينضاف إلى سلسلة الأخطاء التي تثير الشك حول صدق الخطاب الدعوي، بل وتحث على استهجانه. ذلك أن إضفاء الهيبة على اجتهاد بشري، مهما كان نُبل المقصد، يفضي إلى عكس الغاية المرجوة منه. وللأسف فإننا نجد اليوم على منصة الخطاب الدعوي آراء واتجاهات على شاكلة نوح وأحاديثه؛ تؤسس لانشغالات بعيدة عن الواقع، ومنفصلة بشكل مثير للانتباه عما تستدعيه اللحظة من إجابات وإرشادات. ضمن مسعى لتعزيز المشاعر الإسلامية، اتجهت بعض الفضائيات والمواقع على شبكة الانترنت إلى تحديث أشكال
التدين وصوره، وتأكيد انخراطه في منظومة الحداثة، وتشبثه بالاعتدال والانفتاح على الآخر. وصرنا نعاين ظهورا للدعاة الشباب يتسم بأناقة المظهر، وتلاؤم مع صيحات الموضة، إلى جانب تأثيث الاستوديو بجماليات الطبيعة
الغناء. ومن المؤكد أنها رسالة بالغة الأهمية لإسلام يتجاوب مع الحياة، ويعرض جانبه المشرق الذي تحجبه ألوان الدعاية المغرضة.
لكن ماذا بشأن الفحوى؟
وهل يتزامن الخطاب مع دواعيه، أم أن الفجوة مستمرة بين رسائل تمجد الماضي، وحاضر مثقل بالأسئلة والإكراهات؟ سبق للكاتب المصري فهمي هويدي أن أثار في كتابه “أزمة الوعي الديني” مشكلة المهاجرين إلى عالم الغيب. واستغرب الكم الهائل من الكتب والمواد الإعلامية المخصصة لأهوال القيامة، وغرائب عالم الجن، في الوقت الذي نحتاج إلى صرف اهتمام الناس لأهوال الدنيا، وغرائب الإنس التي تقذفها الصحف اليومية. أما “حسبة نوح” المتخفية في طيات مئات العناوين المبثوثة على الأرصفة، فهي حصيلة اقتناع بأننا في زمن الفتنة والانشغال بالدنيا لا بد أن نتذكر
عذاب القبر ويوم الفزع الأكبر؛ ومادامت علل الناس تتزايد في مقابل ارتفاع تكاليف العلاج والاستشفاء، فلماذا لا يبحثون عن الحل في كتيبات الرقى والتعاويذ، وفنون الطب النبوي؟ أما اليوم فتتجدد “حسبة نوح” من خلال تحرير
المعرفة الإسلامية من حدودها وضوابطها، والبحث عن الجذب الإعلامي الذي يمكن أن تحققه قضايا وإشكالات، كانت حتى الأمس القريب مجال تداول ونقاش بين المختصين. فعلى سبيل المثال أصبحت الكلمة القرآنية مثار تأويل متعدد ومنفلت من سياقه، ويخوض في معانيها من لا يخفي ضعف إلمامه باللغة العربية التي هي مادة التفسير، ناهيك عن بقية الروافد المعرفية الضرورية. والأسوأ من ذلك ان يتم نقل زوبعة الخلاف والنقاش إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لتصبح حلبة مصارعة بين أنصار فلان والمتعاطفين مع علان؛ كل ذلك حسبة لله تعالى ! ومن تجليات “حسبة نوح” كذلك، ما يبديه بعض “نجوم” الدعوة من اقتحام لمشاكل الحياة اليومية المعاصرة، دون التسلح بما يكفي من أدوات معرفية ومناهج وحلول عملية. فالطفولة، والحياة الأسرية، والعلاقة الزوجية أو غيرها من العلاقات الإنسانية، تتطلب اليوم حلولا عملية هي خلاصة أبحاث ودراسات، ومحصلة تكامل بين حقول معرفية متنوعة. وبالتالي لم يعد من المقبول أن يدلي فيها الداعية برأي أو انطباع، أو حتى بما يحفظه من حكايات الصالحين. ومن المؤسف أن بعضهم صار يضفي على الوقائع والمشاكل الاجتماعية الحادة مسحة من الدعابة والتسلية، وارتبطت الجاذبية الإعلامية بالقدرة على التنكيت وخفة الظل، بدعوى الحاجة إلى القرب من العامة والإنصات لهمومهم ! وتبقى أخطر تجليات “حسبة نوح” ، هي الجهود التي تصرفنا عن الأسباب إلى الأوهام، وتبالغ في تضخيم الذات أمام المنجز الحضاري الذي لا يعترف بغير العطاء والإبداع. صحيح أن المسلم المعاصر بحاجة إلى تذكير بعالم الآخرة، وأن يتلقى
السنة النبوية الصحيحة بما يليق بها من توقير؛ إلا أن منهج الإسلام في خطابه للناس انبنى على الدعوة إلى النظر السوي، وتوجيه العقل السليم بما يخدم وجوده ويكفل سعادته. ومادام للخطاب القرآني جانبه العملي الذي يقترن فيه الإيمان بـ
العمل الصالح ، فإن مشكلتنا اليوم هي مع تحرير الإرادة واستنهاض العزيمة، والحد من خطاب مُنوّم ، يدغدغ المشاعر حسبة لله تعالى !