إنَّ النَّبيَّ ﷺ أشرف الناس نسباً، وأكملهم خَلْقاً، وخُلُقاً، وقد ورد في شرف نسبه ﷺ أحاديث صحاح؛ منها: ما رواه مسلمٌ: أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وقد ذكر الإمام البخاريُّ – رحمه الله! – نسب النَّبيِّ ﷺ ، فقال: «هو أبو القاسم، محمَّد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصَيِّ، بن كلاب، بن مُرَّةَ، بن كعب، بن لُؤَيِّ، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النَّضر، بن كِنانة، بن خُزيمة، بن مُدْرِكة، بن إلياس، بن مضر، بن نِزارِ، بن مَعَدِّ، بن عدنان» [البخاري تعليقاً (7/205 – 206)] .
وقال البغويُّ في شرح السُّنَّة [(13/193)] بعد ذكر النَّسب إلى عدنان: «ولا يصحُّ حفظ النَّسب فوق عدنان».
وقال ابن القيِّم بعد ذكر النَّسب إلى عدنان أيضاً: «إلى هنا معلوم الصحَّة، متَّفقٌ عليه بين النَّسَّابين، ولا خلاف ألبتةَ، وما فوق عدنان مختلفٌ فيه، ولا خلاف بينهم: أنَّ عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام».
وقد جاء عن ابن سعدٍ في طبقاته: «الأمر عندنا الإمساك عمَّا وراء عدنان إلى إسماعيل». وعن عروةَ بن الزُّبير: أنَّه قال: «ما وجدنا مَنْ يعرف وراء عدنان، ولا قحطان إلا تخرُّصاً».
وقال الذَّهبيُّ – رحمه الله -: «وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السَّلام – بإجماع النَّاس، لكن اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء».
لقد كان – وما زال – شرف النَّسب له المكانة في النُّفوس؛ لأنَّ ذا النَّسب الرَّفيع لا تُنْكَرُ عليه الصَّدارة، نبوَّةً كانت، أو مُلكاً، وينكر ذلك على وضيع النَّسب، فيأنف الكثير من الانضواء تحت لوائه، ولـمَّا كان محمَّد ﷺ يُعَدُّ للنُّبوَّة، هيَّأ الله تعالى له شرف النَّسب؛ ليكون مساعداً له على التفاف النَّاس حوله.
إنَّ معدن النَّبيِّ ﷺ طيِّبٌ، ونفيسٌ، فهو من نسْل إسماعيل الذَّبيح، وإبراهيم خليل الله، واستجابةٌ لدعوة إبراهيم عليه السلام، وبشارةُ أخيه عيسى عليه السلام، كما حَدَّث هو عن نفسه، فقال: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى» [أحمد (4/127) والحاكم (2/600) ومجمع الزوائد (8/222)].
وطيب المعدن، والنَّسب الرَّفيع يرفع صاحبه عن سفاسف الأمور، ويجعله يهتمُّ بعاليها، وفضائلها. والرُّسل، والدُّعاة يحرصون على تزكية أنسابهم، وطهر أصلابهم، ويعرفون عند النَّاس بذلك، فيحمدونهم، ويثقون بهم.
وممَّا تبيَّن يتَّضح لنا من نسبه الشَّريف، دلالة واضحةً على أنَّ الله – سبحانه وتعالى – ميَّز العرب على سائر النَّاس، وفضَّل قريشاً على سائر القبائل الأخرى، ومقتضى محبَّة رسول الله ﷺ محبَّة القوم الذين ظهر فيهم، والقبيلة التي ولد فيها، لا مِنْ حيث الأفراد والجنس؛ بل من حيث الحقيقة المجرَّدة، ذلك؛ لأنَّ الحقيقة العربيَّة القرشيَّة قد شرف كلٌّ منها – ولا ريب – بانتساب رسول الله ﷺ إليها، ولا ينافي ذلك ما يلحق من سوءٍ، بكلِّ مَنْ قد انحرف من العرب، أو القرشيِّين عن صراط الله – عزَّ وجلَّ – وانحطَّ عن مستوى الكرامة الإسلاميَّة التي اختارها الله لعباده؛ لأنَّ هذا الانحراف، أو الانحطاط من شأنه أن يُوديَ بما كان من نسبةٍ بينه وبين الرَّسول ﷺ ، ويلغيها من الاعتبار.
زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهبٍ، ورؤيا آمنة أمِّ النَّبيِّ ﷺ:
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحبِّ ولد أبيه إليه، ولـمَّا نجا من الذَّبح، وفداه عبد المطلب بمئةٍ من الإبل، زوَّجه من أشرف نساء مكَّة نسباً، وهي آمنة بنت وهبٍ ابن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب.
ولم يلبث أبوه أن توفِّي بعد أن حملت به ﷺ آمنة، ودُفن بالمدينة عند أخواله بني «عديِّ بن النَّجار»، فإنَّه كان قد ذهب بتجارةٍ إلى الشَّام، فأدركته منيَّته بالمدينة وهو راجعٌ، وترك هذه النَّسَمَةَ المباركة، وكأنَّ القدر يقول له: قد انتهت مهمَّتك في الحياة، وهذا الجنين الطَّاهر يتولَّى الله – عزَّ وجلَّ – بحكمته ورحمته تربيته، وتأديبه، وإعداده؛ لإخراج البشريَّة من الظُّلمات إلى النُّور.
ولم يكن زواج عبد الله من آمنة هو بداية أمر النَّبيِّ ﷺ . قيل للنَّبيِّ ﷺ : ما أوَّل بدء أمرك؟ فقال رسول الله ﷺ : «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمِّي أنَّه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصورُ الشَّام» [أحمد (5/262) والمعجم الكبير (7729) ومجمع الزوائد (8/221)] .
ودعوة إبراهيم عليه السلام هي قوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129] .
وبشرى عيسى عليه السلام كما أشار إليه قوله – عزَّ وجل – حاكياً عن المسيح عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلـمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6] .
وقوله ﷺ : «ورأت أمِّي كأنَّه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصورُ الشَّام». قال ابن رجب: «وخروجُ هذا النُّور عند وضعه إشارةٌ إلى ما يجيء به من النُّور؛ الَّذي اهتدى به أهل الأرض، وزالت به ظلمة الشِّرك منها، كما قال الله تعالى: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15 – 16] .
وقال ابن كثير: «وتخصيص الشَّام بظهور نوره، إشارة إلى استقرار دينه، وثبوته ببلاد الشَّام، ولهذا تكون الشَّام في آخر الزَّمان معقلاً للإسلام، وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام بدمشق بالمنارة الشَّرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصَّحيحين: «لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَنْ خذلهم، ولا مَنْ خالفهم، حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك». وفي صحيح البخاريِّ: «وهم بالشَّام» [البخاري (3641) ومسلم (1923/م)] .
يوم ميلاد الحبيب المصطفى ﷺ
ولد الحبيب المصطفى ﷺ يوم الإثنين بلا خلافٍ، والأكثرون على أنَّه لاثنتي عشرة ليلةً خلت من شهر ربيعٍ الأول.والمجمع عليه: أنَّه ﷺ ولد عام الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالبٍ، بشعب بني هاشم.
قال أحمد شوقي – رحمه الله! – في مولد الحبيب المصطفى ﷺ :
وُلِدَ الهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِياءُ وَفَمُ الزَّمَان تبسُّمٌ وَثَنَاءُ
الرُّوحُ، والملأُ الملائكُ حَوْلَهُ للدِّينِ وَالدُّنْيَا بِه بُشَرَاءُ
وَالْعَرْشُ يَزْهُو، والحَظِيرةُ تَزْدَهي والمُنْتَهَى والسِّدْرَةُ الْعَصْمَاءُ
بِكَ بَشَّرَ اللهُ السَّمَاءَ فَزُيِّنَتْ وَتَضَوَّعَتْ مِسْكاً بِكَ الْغَبْرَاءُ
يَوْمٌ يَتِيهُ عَلى الزَّمَانِ صَبَاحُهُ وَمَسَاؤُهُ بمحمَّدٍ وَضَّاءُ
ذُعِرَتْ عروشُ الظَّالمينَ فَزُلْزِلَتْ وعَلَتْ عَلى تِيجَانِهِمْ أَصْدَاءُ
والنَّارُ خَاوِيةُ الجَوَانِبِ حَوْلَهُمْ خَمَدَتْ ذَوَائِبُها وَغَاضَ الماءُ
والآيُ تَتْرَى، والخَوارِقُ جَمَّةٌ جِبْرِيلُ رَوَّاحٌ بِها غَدَّاءُ
وقد قال الشَّاعر الأديب اللِّيبي، الأستاذ محمد بشير المغيربي، في ذكرى مولد الرَّسول ﷺ عام 1947 م، في جريدة الوطن الصَّادرة في بنغازي:
بَلَغَ الزَّمَانُ مِنَ الحياةِ عتيَّا لَكِنَّ يوماً لا يَزَالُ فَتِيَّا
يمشي على الأحقابِ مشيَةَ فَاتِحٍ في موكبٍ جَعَلَ السِّنينَ مَطِيَّا
تَخِذَتْ لَهُ الأعْوَامُ في أيَّامِهَا عَرْشاً فأصْبَحَ تَاجَهَا الأَبْدِيَّا
ومَضَتْ بِهِ الأجْيَالُ خُطْوَاتِ مَنْ بَلَغَ الرَّشَادَ وَكَانَ قَبْلُ صَبِيَّا
أعْظِمْ بِيَوْمٍ جَاءَ يَحْمِلُ «رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ» وعِزَّةً ورُقِيَّا
وُلِدَتْ بِهِ للكَائِناتِ حَقيقةٌ أضْحَى بِهَا سِرُّ الحياة جَلِيَّا
وَأَنَارَ في الأُولَى الطَّريقَ إلى الْوَرَى لِيَسِيرَ للأخرى الأنَامُ تَقيَّا
كَادَتْ بِه الدُّنْيَا تَقولُ لِشَمْسِهَا عَنِّي فَقَدْ رَجَعَ الضِّيَاءُ إليَّا
وقال أيضاً في نادي طرابلس الغرب الثَّقافي في القاهرة في عام 1949 م:
مَالِي وَمَا بِي مِنْ شُمُولْ أَشْدُو عَلَى رَغْمِ العَذُولْ
إني أُطَالِعُ في السَّماءِ كَأَنَّها سِفْرٌ جليلْ
وأرَى النُّجُومَ تَمَثَّلَتْ لي كالملائك في مُثُولْ
وَالْبَدْرُ خِلْتُ شُعَاعه وَحْيَ الرِّسَالةِ في نُزولْ
وَإِذَا بِصَوْتٍ مِنْ ضَمِيــرِ الْكَوْن مُبْتَهجاً يَقُولْ
في مثل هَذي اللَّيلةِ الْــغَرَّاء قَدْ وَلِدَ الرَّسُولْ
وَأَشَعَّ نُورُ مُحَمَّدٍ فَوْقَ الرَّوابي والسُّهُولْ
مَلأَ الزَّمَانَ وَكَانَ قَبْــلُ يَهِيمُ في لَيْل طَوِيلْ