” إنها ذِلّة للتابع وفتنة للمتبوع”. هكذا سمى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود حرص بعض طلابه على المشي خلفه، إكبارا منهم لعلمه وفضله. والحادثة رغم بساطتها تكشف عن وعي بمسافة الأمان التي تحرر أهل العلم، وتضمن لهم التجرد في مواقفهم وآرائهم من تبعات المسايرة، وما تقتضيه أحيانا من سكوت عن الحق، أو محاباة للأهواء.
ساعد التطور التكنولوجي لوسائل الاتصال على الظهور الإعلامي لجم غفير من العلماء والدعاة والخطباء. وبعد أن كان التأثير مقتصرا على أهل الحي أو البلدة، أو حتى البلد الواحد، فإن أغلبهم اليوم يحظى بجمهور من المتابعين في جل أنحاء المعمور، وبمشاهدات تقاس على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي بالملايين. وإذا كان بضعة شباب مشوا خلف ابن مسعود إشادة بفضله، فهناك اليوم ملايين ممن لهم نفس الاستعداد والرغبة. وهذا التأثير يرجع بالأساس إلى أسباب ثلاثة:
- شخصية العالم أو الداعية.
- أسلوبه في تقديم المادة العلمية أو الموضوع، وطرحه ومناقشته.
- ذكاؤه في اقتناص الأسئلة الحارقة، والقضايا الشائكة التي تبلبل أذهان الناس، وتحفزهم للبحث عمن يفتح لهم مغاليقها.
ولو أضفنا إلى ذلك دفء العلاقة التي ينسجها المتحدث مع جمهوره، وإشراكهم في تجربته الحياتية، لأدركنا سر انجذاب الناس وتعلقهم، المبالغ فيه أحيانا، بكل قول أو فعل يصدر عنه. والأمر في النهاية سيف ذو حدين؛ فقد ينجح العالم و الداعية في فتح آفاق معرفية وقيمية، ترتقي بسلوك متابعيه وعلاقاتهم، وتحقق مزيدا من الإيجابية في تصحيح أوضاع مختلة. وقد ينجر خلف مكاسب دعوية ضيقة، تلجمه عن قول الحق والصدع بالنهي والأمر على حد سواء، تعلقا منه بنصرة العوام، ونسب المشاهدة، وحصاد الإعلانات!
وإذا كان بين الناس تفاوت في طلب العلم، إلا أن حاجتهم للدعوة والإرشاد وثيقة ومستمرة، تفرضها متغيرات الواقع، وتجلياته المخيفة على الثوابت والعادات ومنظومة القيم. لذا اهتم فقه الدعوة بتحديد المنطلقات والأهداف، كما اعتنى بتطوير المهارات والأساليب، وتضمينها هموم المجتمع وقضايا التدين المختلفة. ولم ينس المرشدون في هذا المجال تحديد مواصفات الداعية، ومقومات الشخصية التي تتناسب مع سمو حقل الدعوة وخطورته في الآن نفسه.
في كتيب عن الدعوة الإسلامية، يحدد الشيخ الإمام محمد أبو زهرة ثمان صفات يجدر بالداعية أن يتحلى بها. وما يميز رؤية الإمام أبو زهرة هو اشتمالها على بعض المحاذير التي تكشف عنها اليوم عشرات الفيديوهات والكبسولات لبعض دعاة السوشيال ميديا.
يرى الإمام أن شخصية الداعي يجب أن تتحلى بالصفات الآتية:
أولا: نية حسنة وقلب سليم يطلب به ما عند الله، فيتقدم إلى الدعوة مؤمنا بوجوبها ومتساميا بها. ولا تكن غايته رضا رئيس أو ترقية في منصب.
ثانيا: معرفة بفنون القول وكيفية مخاطبة الناس، عملا بتوجيه لبيب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن للقلوب شهوات وإقبالا وإدبارا، فأتوها من قِبل شهواتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي. هذه المقولة تضع الأصبع على موضع خلل مزمن في أسلوب بعض الدعاة والخطباء، حين يجعلون من حديثهم أو خطبتهم حصة لجلد الذات، وتقريعها ولومها ، دون اعتبار لما يقتضيه الأمر من اعتدال واستحضار لسعة رحمة الله، وعلمه السابق بالضعف الإنساني. هكذا يخرج الداعية بسياق الدعوة من التأليف إلى التنفير، وتثبيت الخطيئة في النفوس كأنها قدر لا يُرد!
ثالثا: شخصية نافذة ومتحررة من العيب الخلقي والنفسي؛ تتكلم في موضع الكلام، وتصمت في موضع الصمت. ولعل مما يُثير حفيظة المسلم المعاصر أن يصمت الداعية في موضع الكلام، أو يتكلم خارج ما تقتضيه الأحداث والتقلبات.
رابعا: رفق من غير ضعف، واتجاه إلى معالي الأمور حتى يشعر المتابع أنه يعلو ويرتقي. لذا فإن مقولة الإنصات لنبض الشارع لا تبرر الخوض في سفاسف الأمور، أو إغفال ما ترمي إليه الدعوة من إصلاح وتهذيب للنفوس.
خامسا: علم بالكتاب والسنة، مع دراسة واعية لنفوس وعادات من يدعوهم. ومما يلاحظ لدى بعض الدعاة الشباب أنهم شكلوا مفاهيم ذهنية حول فئات المجتمع، وبنوا رسائلهم الدعوية دون وعي حقيقي بخصوصيات كل فئة. فالداعية الذي يوجه خطابا للمرأة، ينطلق في الغالب من تمثلات مركوزة في ذهنه، فيصدر أحكاما أو توجيهات تثير لغطا وانقساما لا داعي له. وقد يبدي رأيا ساذجا في قضية معرفية أو اجتماعية شائكة، تتطلب دراسة مسبقة واستيعابا لأبعادها، فيسيء للدعوة من حيث لايدري، أو يؤثر على جهد جماعي يُبذل لتأليف القلوب في مجتمع متعدد المشارب.
سادسا: لا يكون خصما، ولا يدخل في خصومات مع من يدعوهم. ومشكلة بعض الدعاة الشباب اليوم أنهم جعلوا من السخرية واللمز أسلوبا لإثارة بعض الظواهر الاجتماعية، أو تسجيل موقف بشأنها. ويتكرر الأمر إلى أن ترتسم حدود شائكة بين المسلم كما يحدد هذا الداعية أو ذاك مواصفاته، وبين من يعتبرهم نماذج للرذيلة والشر في المجتمع. وبدل أن يكون عونا للمخطئ على نفسه، يصبح عونا للشيطان عليه!
سابعا: مظهر لا يخالف الدين وأوامره، ويجمع صاحبه بين دعوة بالقول وأخرى عملية. وفي ظل إعلام يتتبع كل شاردة وواردة في حياة من يعتبرهم مشاهير أو نجوما، تتفجر قضايا مرتبطة بحدود تصرف الداعية في حياته الخاصة.
ثامنا: البعد عن مواطن الشبهات، لأنها تُضعف قوله وتوهن دعوته. وبين هذه الصفة وما قبلها تطرح تساؤلات عديدة حول مدى التزام الداعية أو الخطيب بخصوصية الإطار الذي يتحرك داخله، وما تقتضيه الدعوة من إنكار للذات.
تثمر هذه الصفات تأييدا للحق ولو على حساب أهواء العامة. وبها يستقيم خطاب الداعية وأداؤه، حتى يكون من يحمده في الحق أو يذمه سواءعنده، كما أشار إلى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلا حمدُ الناس يغريه بإقدام، ولا ذمهم يوسوس له بنكوص.
إن من مواصفات العوام أو الجمهور في مجال الدعوة هو سرعة استجابتهم للحق، وخلوهم من موانع القبول التي يتميز بها عادة ” الخاصة” أو نُخب المجتمع، كحب التسلط والأنفة والكبر النفسي، إضافة إلى ما يتمتع به العوام من سلامة الفطرة، مما يجعلهم أسرع انقيادا للحق(1). هذا يعني أن ما قد يعتبره الداعية مؤشرا على إنجازه الدعوي هو في الحقيقة مجرد أرضية لبداية تتطلب التهذيب، والتشذيب، والارتقاء بالفهم والسلوك.