ذكر القرآن الكريم جانبا من حالات المهاجرين الأوائل من الصحابة الكرام الاجتماعية وهم يتأهبون للهجرة في سبيل الله تعالى فارين بدينهم وعقيدتهم من أذى المشركين في مكة، فقال الله تعالى: ﴿إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا * فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا ﴾ [النساء: 98-99]. وذلك حين جرى الكلام عن المستضعف، وهو المعدود ضعيفا الذي لا يعبأ بما يصنع به، وليس هو في عزة تمكنه من إظهار إسلامه، فلذلك يضطر إلى كتمان إسلامه. وقد اختلفت أقوال العلماء في تعيين المقصودين بالمستضعفين من المسلمين في هذه الآيات، وأوصافهم، ومن يدخل أو يخرج من الحكم. ولنبدأ بسبب نزول الآية لتقريب معناها والوصول إلى المراد بالمستضعفين وأوصافهم.
لقد استثنى المولى سبحانه (المستضعفين) من الوعيد والعقوبة الشديدة التي تلحق المتخلفين عن الهجرة من مكة إلى المدينة في حالة تمكنهم، وهؤلاء المستضعفون هم “الذين استضعفهم المشركون “من الرجال والنساء والولدان”، وهم العجزة عن الهجرة – بسبب العُسْرة، وقلّة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق – من أرضهم أرضِ الشرك إلى أرض الإسلام، من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم: أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره.
أعذرت الآية المستضعفين من الحكم المنطبق على جملة المتخلفين عن الهجرة، وراعت واقعهم وموقعهم الاجتماعي في مكة.
روى الطبري عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون:”كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا”! فاستغفروا لهم، فنزلت:”إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم” الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النحل: 110] ، فكتبوا إليهم بذلك:”إن الله قد جعل لكم مخرجًا”، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل.
قالوا: وكان منهم أبو قيس بن الفاكه، والحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج فهؤلاء قتلوا. وكان العباس بن عبد المطلب، وَعَقِيلٌ ونَوْفَلٌ ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسروا وفدوا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية.
وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونَوْفل، قال رسول الله ﷺ للعباس: افدِ نفسك وابني أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم! ثم تلا هذه الآية:”ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا”، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر، فهو كافر حتى يهاجر، (إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) حيلةً في المال، و”السبيل” الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم، من الوِلدان.
وروى عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ كان يدعو في دبر صلاة الظهر:”اللهم خَلّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
يستخلص من هذه الروايات مجموعة من الأوصاف تنطبق على المستضعفين وهي:
1 – هذه الآيات تحدثت في الظاهر عن مجموعة من أهل مكة، كانوا قد أسلموا وأظهرو الإيمان للنبي ﷺ، فلما هاجر النبي ﷺ أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا. وانقسموا إلى طوائف:
طائقة خرجوا إلى بدر مع جيش الكفار، كثَّروا سواد الكفار وقاتلوا ضد جيش المسلمين، وهم في الغالب كانوا مكرهين على الخروج، وكان العباس من هذه الفئة، أسر وفدى نفسه ومعه عقيل ونوفل ابنا أبي طالب، وكان من المكرهين على الخروج، ولكنه نجا وأسر مع أسرى بدر.
2 – الفئة الثانية وهم الذين خرجوا مع الكفار إلى بدر وماتوا في حالة القتال في جيش الكفار ضد المسلمين فهؤلاء من (ظالمين أنفسهم)، والظلم هنا المعصية، وهؤلاء يلقون العذاب بسبب المعصية إن ماتوا غير مرتدين، أما الين ارتدوا منهم فقد ظلموا أنفسهم بالرضا بالكفر بعد الإيمان. وذلك أن ظلم النفس في القرآن يطلق على الكفر والمعصية. [التحرير والتنوير]
قال عكرمة: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله ﷺ يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل. [صحيح البخاري]
وهذه الفئة لا بد أنهم ارتدوا عن دينهم، أما مجرد الخروج وعدم الهجرة فهذا يعد معصية لا يصل إلى درجة الكفر، قال ابن عطية: والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة، وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنا وأكره على الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل.
3 – استثنى المولى سبحانه من الآية (المستضعفين)، وهم من كان استضعافه على حقيقته من زَمَنَة الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة والوليد بن هشام وغيرهما، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين، هي من النساء وأنا من الولدان. وكان الرسول ﷺ يدعو لهذه الفئة في صلاته، كما في حديث أبي هريرة المتقدم.
قال ابن كثير: (إلا المستضعفين..) هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق.. يتجاوز عنهم بترك الهجرة، وعسى من الله موجبة لأنه للإطماع بما عند الله تعالى.
وأما ابن عاشور فقد كشف عن الوجه البياني في استخدام (عسى) الذي معناه الأصلي للرجاء في قوله تعالى: ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ﴾، فقال: “معنى الرجاء المستفاد من عسى هنا معنى مجازي بأن عفوه عن ذنبهم عفو عزيز المنال، فمثل حال العفو عنهم بحال من لا يقطع بحصول العفو عنه، والمقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم، لئلا يتساهلوا في شروطه اعتمادا على عفو الله، فإن عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى، لأن البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم، وكان الواجب العزيمة أن يكلفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك، كما فعلت سمية أم عمار بن ياسر”. [التحرير والتنوير 5/177].
حالات الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن بدينه
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل السفر للعيش ببلاد أوروبا، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام فالإقامة في مثل هذه البلاد جائزة.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملا صالحا وآخر سيئا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلا وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها..[1] لكن لم يحفظ أن أحدا من فقهاء المذهب دعا إلى الخروج منه.
قال ابن عاشور عقب هذه الأحوال: ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.
[1] «قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يسب فيه السلف»، انظر: تفسير القرطبي وأحكام القرآن لابن العربي المالكي.