إن هدي النبي في الإنفاق في مجال الخير خلال شهر رمضان من أكمل الهدي وأحسنه، إذ كان يمتثل الخطاب المنزل عليه حياً من الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ [التغابن: 16]

وقد وصف القرآن الكريم الإنفاق في سبيل الله بأنه تجارة رابحة لن تبور، حيث يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر: 29)

وأضاف النبي : (ما نقصت صدقة من مال) (رواه مسلم)

وقال أيضاً: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، فأما الذي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله بها عزة، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأما الذي أحدثكم فاحفظوه؛ إنما الدنيا لأربعة نفر:

  • عبد رزقه الله مالاً وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل رحمه ويعمل لله فيه بحقه فهذا بأفضل المنازل.
  • وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية ويقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فأجرهما سواء.
  • وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمته ولا يعمل فيه بحق فهذا بأخبث المنازل.
  • وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته ووزرهما سواء)
    (أخرجه الترمذي وصححه الألباني)

ومما جاء في فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، قول النبي : (اتقوا النار ولو بشق تمرة)
(رواه البخاري).

وصف إنفاق النبي في رمضان

كان من هديه كثرة الإنفاق في رمضان، بل إنَّه مع عظيم كرمه في كل حين إلَّا أنَّه كان أجود ما يكون في رمضان، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:

(كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) [متفق عليه].

قال الطيبي في شرح “المشكاة” وهو يوضح الحديث ويكشف ما فيه من خصائص النبي حول كثرة إنفاقه وسماحة نفسه بذلك في جميع الأوقات، والزيادة منه على المعتاد في رمضان، وذلك فيما يأتي:

وصف إنفاق النبي في رمضان

كان رسول الله أجودَ الناس بالخير، فقد وُصِف بأنَّه أكثر الناس جودًا، وذلك بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معنى. جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته وشُجَّ وجهه، وجاد بجاهه، وجاد بما أعطاه الله من المال، وجاد بالدلالة والإرشاد إلى كل ما ينفع العباد في الحال والمآل وتحذيرهم من كل ضارٍّ في الحاضر والمستقبل.

قال الطيبي:

كان الرسول أجود يسمح بالموجود، لكونه مطبوعًا على الجود، مستغنيًا عن الفانيات بالباقيات الصالحات، إذا بدا له عَرَضٌ من أعراض الدنيا لم يعره مؤخرَ عينيه وإن عزَّ وكثُر، ببذل المعروف قبل أن يُسأل. وكان إذا أحسن عاد، وإن وجد جاد، وإن لم يجد وعد ولم يُخلِف الميعاد.

وكان يظهر منه أكثر آثار ذلك في رمضان أكثر مما يظهر منه في غيره؛ لِمَعانٍ:

  1. أنَّه موسم الخيرات.
  2. أن الله تعالى يتفضل على عباده في ذلك الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره، وكان يؤثر متابعة سنة الله تعالى في عباده.
  3. أنَّه كان يصادف البُشرى من الله بملاقاة أمين الوحي، وبتتابع إمداد الكرامة عليه في سواد الليل وبياض النهار، فيجد في مقام البسط حلاوة الوَجد، وبشاشة الوِجدان، فيُنعم على عباد الله بما يمكنه مما أنعم الله عليه، ويُحسن إليهم كما أحسن الله إليه، شكرًا لله على ما آتاه.

أسباب زيادة الجود في رمضان

كان أكثر جود النبي في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، والحكمة في زيادة جوده في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، أن مدارسة القرآن تجدِّد له العهدَ بمزيد غِنى النفس، والقرآن خُلُقه كما قالت عائشة رضي الله عنها، يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه.

وأيضًا فرمضان موسم الخيرات وزيادة الجود والكرم، وقد وصفه الله بأنه الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن، فبمجموع ما ذُكر من الوقت الفاضل (رمضان) والمنزول به (القرآن) والنازل به (جبريل) ومدارسته معه؛ حصل المزيد في الجود.

وأما سبب زيادة جوده في رمضان، فيُحتمل أن يكون:

  • بمجرد لقاء جبريل ومجالسته
  • بمدارسته إياه كتابَ الله.

قال ابن المنير: وإضافة آثار الخير إلى القرآن آكَدُ من إضافتها إلى جبريل عليه السلام، بل جبريل إنما تميز بنزوله بالوحي، فالإضافة إلى الحق أولى من الإضافة إلى الخلق، لا سيَّما والنبي على المذهب الحق أفضلُ من جبريل، فما جالس الأفضلُ إلا المفضول، فلا يُقاس على مجالسة الآحاد للعلماء.

بين جود النبي صلى الله عليه وسيلم والريح المرسلة

وكان أجود من الريح المرسلة، حيث شبه أنفاق النبي وكرمه في رمضان بيالريح، قال النووي:

في الحديث جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرِّب ذلك لفهم سامعه؛ وذلك أنه أثبت له أولًا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبَّه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها، لأن الريح قد تسكن.

ووُصِفت بالمرسلة المبشِّرة بالخير المطلَقة، ليَحتَرِس بذلك عن الريح العقيم الضارة، والمرسلة يستمر إرسالها مدةَ إرسالها، وكذا كان عمله في رمضان ديمةً لا ينقطع، فشُبِّه بريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام، الذي يكون سببًا لإصابة الميتة وغير الميتة، أي يَعُمُّ خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومَن هو بصفة الغنى والكفاية، عموما أكثر من عموم الغيث الناشئ عن الريح المرسلة.

جاء في “مرعاة المفاتيح”:

فضل جوده على جود الناس، ثم فضل جوده في رمضان على جودِه في غيره، ثم فضل جوده في ليالي رمضان وعند لقاء جبريل على جودِه في سائر أوقات رمضان، ثم شُبِّه بالريح المرسلة في التعميم والسرعة. قال ابن الملك: لأن الوقت إذا كان أشرف يكون الجود فيه أفضل.

الفوائد التربوية لحديث إنفاق النبي في رمضان

يحتوي الحديث الشريف على فوائد تربوية وتعليمية عدة، منها:

  1. الحث على الجود في كل وقت ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح.
  2. زيارة الصالحين وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه.
  3. استحباب الإكثار من قراءة القرآن الكريم في رمضان، لأن رمضان موسم الخيرات، ونعم الله على عباده زائدة فيه، وفيه تتضاعف الحسنات.
  4. أن قراءة القرآن أفضل من سائر الأذكار؛ إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويًا، لفعله رسول الله وجبريل عليه السلام، فاجتمع بذلك أفضلية النازل، وأفضلية المنزول عليه، والمنزول به، والوقت.
  5. قال الحافظ ابن حجر: في الحديث إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان، كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه، من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين، كما ثبت في الصحيح.
  6. في الحديث جواز المذاكرة مع الفاضل في القرآن والعلم، وإن كان الفاضل لا يخفى عليه ما يذاكره، للعبادة وزيادة الاتعاظ.
  7. أن المقصود من التلاوة الحضور والفهم، لأن الليل مظنة ذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية.
  8. أن ليل رمضان أفضل من نهاره، يقول تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 6]
    قال ابن كثير: والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة.