انتشرت في أوساط المسلمين، وفي مجتمعاتهم المختلفة كثرة الحلف في صغائر الأمور وكبائرها، بحاجة وبدون حاجة، وبحق وبغير حق، سواء في دعوى صادقة أو نافقة، وبات ظاهرا في المجتمع، معهودا بين الناس غير مستنكر، استسهله الناس في ناديهم، نسمع من البعض قولهم: (حلفت بالله)، وبعضهم يقول: (حلفت)، ويكرر الآخر: (والله .. والله)، وآخرون يقولون: وحياة أمي..!! مخادعة ويتجرأ على مخالفة ما حلف عليه .. فكأننا نسينا أو تجاهلنا أن الحلف بدون حاجة لا يسوغ في الشرع صرح به القرآن الكريم، ويشهد له هدي خير الأنام ﷺ، يقول الله في محكم التنزيل: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) /البقرة: 224/، والعُرضة على وزن فعلة مبالغة في منع ذكر اسم الله تعالى للأيمان به، لأن الإكثار من الحلف أدعى لنقض المحلوف عليه ، ويؤدي ذلك إلى تهاون باسم الله وحقه، والملفت للنظر في هذه الآية أن المولى سبحانه نهى عن إكثار الحلف باسمه في أعمال الخير، من أنواع البر والصلاح والإحسان، فإذا كان يمنع الإكثار بالحلف برا .. فكيف بمن يحلف إثما وفجورا وهو يعلم! تقول عائشة رضي الله عنها: نزلت في تكثير اليمين بالله نهيا أن يحلف الرجل به برا فكيف فاجرا.
وتظهر لنا بجلاء حكمة منع كثرة الحلف، أنها صفة الكفار والمنافقين أوضح لنا ذلك القرآن الكريم، فقد أرشد المولى سبحانه رسول الله ﷺ أن يفارق طريق الكافرين، فقال جل ذكره: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ) /القلم: 10/، والحلاف كما سبق هو كل من يردد الحلف ويكثر فيه ليوهم الناس به، وقد رجح أكثر المفسرين أن الآية تشمل جميع الكفار بما فيهم أبو جهل، والأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة، كون الحلف صنيعهم المعتاد.
كما أن كثرة الحلف دين أهل النفاق ولا يستبعد منهم ذلك لأن بطانة المنافقين تنطوي على الكذب والمراوغة، ولا سبيل لستر عوراتهم إلا بالحلف، لذلك جاءت سورة التوبة تفضح طويتهم، وتكررت فيها لفظة (يحلفون) في السورة بصيغ المضارع المتنوعة، للدلالة على التجدد والحدوث، وهي تشير إلى أن الحلف والإكثار منه هو لباس المنافقين ووشاحهم الساتر، ونديمهم الملازم، وكان هذا سببا من تسمية سورة براءة بالفاضحة، أو الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، وقد أبان المولى سبحانه مقصدهم بكل هذه الأيمان المتكررة في قوله: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) /التوبة: 96/ حيث كان هدفهم من الحلف أن يرضوا المؤمنين ولا يفعلون ذلك لوجه الله ولا للبر كما أفاد ابن عطية.
كثرة الحلف دين أهل النفاق ولا يستبعد منهم ذلك لأن بطانة المنافقين تنطوي على الكذب والمراوغة
ومما يعجب منه المسلم أن ينتهج هذا الطريق الردي من الفعل بعد الأمر باجتنابه، وبيان وقاحة هذا الصنيع من المنافقين والكفار، حتى يصبح أحدنا لا يكاد يركب جملة مفيدة بدون الحلف، والرجال والنساء في ذلك سواء، أمر يستدعي التوقف والعلاج، وأقبح من ذلك كله أن نجد بعضنا يحلف بما يخالف المشروع، نسمع بعضهم يقول: وحياة الله!، ويقول الآخر: وحياة القرآن! بلهجته الدارجة، وهذا بلا خلاف ينذر أن خصلة النفاق تفرخت في المجتمع المسلم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد وغيره، أنه سيظهر الكذب بعد العصور الفاضلة، فيحلف البعض قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد! إشارة إلى تهاون واستمراء الكذب والحلف عليه .
كيف كان حلفه ﷺ
رغم خبر الصادق ﷺ هذا فإن الأمر انتشر في جميع شرايين حياة الأمة، يحلف البياع والزبال، والقائد والرعاة ويكثرون في سفاسف الأمور وصغائرها، حتى جعل الناس لا يثقون بالحلف واليمين، بل بلغ الأمر أن نرى بعض الوافدين في دولنا الإسلامية من غير المسلمين يفهمون من أيماننا أننا نريد بها الابتزاز والاستغلال، وكان من أنجع الدواء لهذا المرض المستشري أن نتتبع هدي النبي ﷺ كيف كان حلفه، وفيما كان يحلف، ومتى يفعل ذلك، فإن هديه خير الهدى، وأحق بالاتباع، وهنا نقف مع طيب أخلاقه ﷺ حين يحلف لغرض الامتثال باختصار:
– كان رسول الله ﷺ إذا حلف على شيء فإنه يدل على عظم شأن هذا الشيء وأهميته وخطورته وأحاديثه ﷺ في ذلك كثيرة، فكان لا يستهين بالأيمان أو يسترسل فيها. مثاله أنه أقسم فقال ﷺ: (والذي لا إله غيره، لا يحل دم رجل مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا ثلاثة…) الحديث. وهذا في مبالغة التحذير من أجل مجانبة هذا الأمر، وكذا يقسم أحيانا للمبالغة في سرعة التنفيذ.
– كانت عادته ﷺ أنه يحلف بأسماء الله وصفاته وبما يدل على أفعاله سبحانه، وهناك أربعة ألفاظ معينة كان يواظب عليها كما ذكر ابن حجر، أحدها: والذي نفسي بيده، وكذا نفس محمد بيده، يبدأ بعضها بلفظ “لا”، وبعضها بلفظ “أما” وبعضها بلفظ “ايم”. وثانيها: لا ومقلب القلوب، ثالثها: والله، ورابعها ورب الكعبة.
– وكان ﷺ يحذر من الحلف الكاذب، أو الفاجر، فقال رسول الله ﷺ من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. صحيح البخاري.
– ونهى عن الحلف بكل ما سوى الله من المخلوقات والجمادات والطواغيت، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أنهاكم أن تحلفوا بآبائكم. وسمع رجلا يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله، فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله.
كان ﷺ يأمر أصحابه بإبرار القسم أو المقسِم، وجعل ذلك من حق المؤمن على أخيه
– وكان ﷺ حلف في أكثر من ثمانين موضعا كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد، وكان ﷺ يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة ويمضي فيها تارة. فقد ثبت أنه ﷺ قال يوما «والله، لأغزونّ قريشا»، ثم قال: «إن شاء الله»، ثم قال: «والله لأغزون قريشا» ، ثم قال: «إن شاء الله». رواه أبو داود، وقال في سبل الهدى: رجاله رجال الصحيح.
– وكان ﷺ إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه وأتى التي هي خير، وفي هذا عدم وجوب إمضاء اليمين، وجواز الرجوع عنه مع التكفير.
– وكان ﷺ يأمر أصحابه بإبرار القسم أو المقسِم، وجعل ذلك من حق المؤمن على أخيه، وإبرار القسم هو فعل ما أراده الحالف ليصير بذلك بارا، واشترط أن يكون القسم لا يتضمن معصية أو مفسدة أو مشقة، فقد روى الإمام أحمد برجال الصحيح عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: أهدت إليّ امرأة ثمرا في طبق فأكلت بعضه، فقالت: أقسمت عليك إلّا أكلت بقيّته، فقال رسول الله ﷺ: «برّيها، فإن الإثم على المحنث».
ونستخلص من كل ما سبق أن السنة التقليل من الحلف وأن نقصره على ما فيه مصلحة أو ما له شأن عظيم، ولا يستهان به، اتباعا لمنهج النبي ﷺ .