ما إن تتفتح مدارك الطفل حتى تسارع وسائل التواصل الحديثة لتحظى بحصة الأسد من روتينه اليومي. ذاك هو المظهر الذي يسِم الجيل الحالي من الصغار، وتلك خلاصة الشكاوى المتزايدة من لدن الآباء، بعد أن استأثرت المواد المرئية والسمعية بأوقات الطفل، وشغلته بنشاط لا هو باللعب ولا بالنوم، وإنما تشربٌ مثير لآلاف البرامج والألعاب التي تعزز ميوله للخمول والسلبية والعنف؛ بل الأدهى من ذلك أنها تنفرد اليوم بتشكيل نماذج القدوة التي ينبغي أن يحاكيها الصغار، ويقيسوا على غرارها خطواتهم وآمالهم.
ينشأ جيل الصغار اليوم وسط زخم هائل من الحكايات والألعاب التي يستحوذ فيها السحرة والمقاتلون على معاني البطولة. وتتراجع القيم أمام أبجدية القوة المجردة من حسها الأخلاقي. وما إن يحول الطفل أنظاره عن شاشة الحاسوب أو الهاتف حتى تسحبه قوائم الأبطال والنماذج إلى السوق، حيث تتحالف المشاهدة اليومية مع النزعة الاستهلاكية المفرطة، لينفتح باب من الإرهاق المادي، ولهاث الطفل خلف سلع لا طائل تحتها سوى إرواء شغف لا ينضب.
يتولد عن هذا الوضع المؤلم سؤال القدوة بشكل مُلح، خاصة وأنها حارسة الهوية والقيم، وحائط صد أمام رياح العولمة التي تقتلع كل خصوصية وانتماء. بل ويتحول الأمر إلى هاجس يقض المضجع ونحن نعاين مخرجات الإصلاح التربوي وتعديل المناهج في أكثر من بلد إسلامي؛ مما يستدعي تجديد النداء بأن تتحمل الأسرة المسلمة مسؤوليتها في توجيه الطفل للاقتداء، والتأثر الواقعي بالنماذج التي تطبعه بطابع الإسلام ومبادئه الحقة.
قلما تخلو نظرية تربوية من التصريح أو التلميح بضرورة وجود “مثل أعلى” و”نموذج”، يساعد الطفل على بناء ثقته بذاته، ويُكسبه المهارات الضرورية للتفاعل الاجتماعي مع محيطه. وفي تاريخ كل أمة قائمةٌ بأسماء عظمائها من القادة والحكماء وغيرهم، ممن تحفظ لهم الذاكرة أعمالا جليلة. إلا أن شروط التأسي بهم واتخاذهم قدوة للناشئة تبدو غير متوافرة لأسباب من بينها:
– خلو سجلات التاريخ من إضاءات متعلقة بحياة “النموذج” الخاصة وسيرته في الناس.
– التباين الحاد بين عطائه في ميدان الحياة العامة وسلوكه الفردي أو تصرفاته اليومية؛ فالوجه الآخر للبطل الفاتح على سبيل المثال قد يشمل صور الظلم والتعدي، وخيانة العهود والمواثيق، مما يحول دون تبنيه كقدوة للصغار!
– ارتباط سيرة النموذج بخصوصية أمة دون أخرى، أو بواقع اجتماعي لم يعد قائما، وبالتالي يصعب تعميمه أو التأسي به.
وإذا كان الأنبياء والرسل استثناء في هذا الباب، لكون تعاليمهم متصلة بالوحي الإلهي، وغايتهم هي تجديد العهد الأزلي الذي أخذه الإنسان على نفسه لخالقه، فإن مسألة الاقتداء تظل رهينة بتوافر أربع خصال، يرى العلّامة سيد سليمان الندوي أنها لم تتحقق سوى في سيرة النبي محمد ﷺ:
– أن تكون تاريخية؛ يصدقها التاريخ ويشهد بصحة أخبارها.
– أن تكون جامعة محيطة بأطوار الحياة ونواحيها.
– أن تكون كاملة متسلسلة، لا تنقص شيئا من حلقات الحياة.
– أن تكون عملية يتطابق فيها سلوك الداعي وعمله مع يدعو إليه من مبادئ وفضائل.
تُمدنا السيرة النبوية بقائمة من النماذج التي أخلصت في ترجمة المبادئ إلى سلوك وتصرفات، وحولت المعاني السامية إلى حركة تصنع التاريخ والحضارة. فالنبي ﷺ بُعث ليكون أسوة حسنة، وتمثلت في شخصه الكريم صورة كاملة للمنهج الإسلامي، يقول الأستاذ محمد قطب، وترجمة حية لروح القرآن وحقائقه وتوجيهاته.
أما الصحابة رضوان الله عليهم فهم الذين عايشوا مدونة الأعمال المحمدية بالبصر والوجدان، وأخذوا عن شخصه الكريم دروس العبادة والمجاهدة، والأبوة والقيادة، ودقائق المنهج الذي غيروا به مجرى التاريخ.
لذا كان السلف الصالح حريصا على تلقين ناشئته أحداث السيرة النبوية ليتكامل المبدأ مع صورته الحية ممثلة في النبي ﷺ والذين آمنوا معه. يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص:” كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله ﷺ ويعدّها علينا وسراياه، ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.” وللأسف يمكننا القول دون تردد أن جزءا من مشاكل الأسر المسلمة مرتبط بتضييع هذه المآثر، وترْك الصغار عرضة للنماذج السيئة والمختلة التي تسيء للهوية والعقيدة.
هناك بكل تأكيد مبادرات عديدة لتثقيف الصغار في مجال السيرة النبوية، وعرض أحداثها ضمن أساليب مشوقة، لكن الأمر يقف عند التثقيف والإمتاع، وتكرار أحداث بعينها إلى الحد الذي يحرم شخصيات معينة من الظهور، ويعطل جوانب الاقتداء التي تسد ثغرات عديدة في فهم الطفل المسلم وسلوكه. فأغلب المبادرات، سواء كانت قصصا مصورة أو دروسا مقررة، تحافظ على نفس وتيرة الحكي التي تتناول بدايات الدعوة، ثم محطات العسكرية الإسلامية منذ غزوة بدر حتى فتح مكة. أما جوانب الاقتداء من شخصية الرسول ﷺ وصحابته فهي شبه غائبة، لكونها موزعة بين المصنفات الحديثية وكتب الشمائل.
هذا الشيء الذي تنبه له الشيخ محمد الغزالي في السطور الأخيرة من كتابه (فقه السيرة) بالقول:” قد تظن أنك درست حياة محمد ﷺ إذا تابعتَ تاريخه من المولد إلى الوفاة. وهذا خطأ بالغ، إنك لن تفقه السيرة حقا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة. وبقدر ما تنال من ذلك، تكون صلتك بنبي الإسلام.”
إن خطة تسويق النموذج، سواء كان لاعب كرة أو مصارعا أو مطربة، تعتمد على الترويج المكثف لأخباره وتفاصيل حياته اليومية، بل حتى لأخطائه وخطاياه. ومادام الصغار لا يميزون بين الجيد و الرديء فإن محل القدوة هنا يصبح مدمرا للبناء القيمي الذي يضمن توازن الشخصية، ومسؤولا عن شيوع مظاهر العنف والإخلال بالحياء العام.
وحتى يكون درس السيرة النبوية ناجعا في عرض “النموذج “الذي نرتضيه، فإننا بحاجة إلى كتابات تضع نصب أعينها مبدأ الاتباع والتأسي، كما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم حين نقلوا لنا السلوك النبوي في أدق تفاصيله، سواء ما تعلق بالعمل الفردي أو بالأعمال الجماعية التي كان يُشرك فيها أصحابه.
فمن حق صغارنا أن يتعلموا كيف كان نبيهم ﷺ يعامل الزوجة والأبناء، وكيف كان يُقابل غلظة الناس وسوء طباعهم، وكيف كان يقضي سحابة يومه، وما هي نظرته للحياة الدنيا بكل تجلياتها، وما موقفه من العلم والنجاح والطموح.. إلى غير ذلك من الأسئلة والقضايا التي يضج بها زمنهم، حتى يصلح آخر الأمة بما صلح به أولها كما قال إمام دار الهجرة رحمه الله !