يقدم شريعتي في مفهوم “الأمة” تحليلًا اجتماعيًا ونظريًا لمفهوم “الأمة” مقارنًا هذا المفهوم بالمفاهيم الناشئة في المجتمعات الأخرى مثل “القبيلة، القوم، الشعب، الطبقة، المجتمع، الطائفة، العنصر، الجمهور”، مبينًا في منهجه الإسلامي تمايز مفهوم “الأمة” في الإسلام عن هذه المفاهيم في العلاقة بين العناصر والمكونات لهذه المفاهيم موضحًا- أيضًا- التمايز في “الهدف” أو “الغاية”، وفي طريقة التكوين مشيراً إلى أبعاد هذا المفهوم الأساسية التي حددها في أربعة أبعاد هي: الاختيار، الحركة، التقدم، الهدف.كما أضاف “شهادة الأمة” والتي اعتبرها بمثابة تكليف إلهي يجعل “الأمة الإسلامية” هي الأمة : القطب الذي يتوسط مركز الأرض وتدور حوله الأمم، كما أن هذه الأمة تتوسط الزمان فلا تتخلف عنه أو تعتزل فهي “مركز الأقطاب” الزمان والمكان بما تحمله من رسالة إنسانية عالمية.
وقد طرح شريعتي مفهوم الأمة القطب ليصف به ” الأمة الإسلامية” فما أبعاد هذا المفهوم وتجلياته المعرفية والاجتماعية والحركية للأمة هذا ما نتناوله في هذه المقالة التي نترك فيها شريعتي يتكلم عن الأمة القطب.

الفضاء المعجمي للمفهوم

في ضوء الألفاظ المستخدمة في اللغات الأوروبية والعربية والفارسية والتي يوسم بها التجمع البشري وبيان المدلول اللغوي لكل منها في ضوء أساسه اللغوي، الذي يوضح وجه التسمية؛ يوضح شريعتي الفرق بين هذه المفاهيم وبين المفهوم الإسلامي”الأمة”:

1. (Nation): مصدرها Naitre وهو معنى الولادة. إذن فأصحاب هذه التسمية يعتبرون الملاك الأساس والرابطة الطبيعية والمقدسة والواقعية التي تربط بين أفراد التجمع الواحد هي: القرابة ووحدة الدم والعرق.
ومن وجهة نظر هؤلاء يعتبر هذا الملاك أقدس رابطة تقرب بين أفراد التجمع الإنساني وحينما يختار الأوروبيون كلمة (Nation) و (Nationalism) فهم يؤيدون أصالة الرابطة العرقية التي لا تزال سائدة حتى الآن. ونلاحظ هنا أن هذا التصور عين الرؤية القبلية، حيث تربط القبيلة بين أفرادها بواسطة انتمائهم إلى جد واحد، بني تميم، بني أمية، بني نجار… إلخ.

2. القبيلة: وهي مفهوم قديم جداً، حتى أنه أقدم من كلمة (Nation). والقبيلة مجموعة من أفراد الإنسان يختارون مقصداً و”قبلة” واحدة في حياتهم. وأكثر الروابط قوة بين الإنسان في هذا المجتمع اشتراك الأفراد في القبلة “المقصد” يعني في الهدف، والمقصد في المعاد الذي هو عادة المرتع. إذ كل قبيلة لها مرتعها ومستقرها الصيفي والشتوي. وحينما تسرح البصر في الصحراء ترى كل جمع “قبيلة” متجهًا صوب قبلة ما. إذن؛ فالقبيلة مجموعة أفراد يشتركون في القبلة.
القوم: تُبنى الحياة في هذا المجتمع على أساس “قيام الأفراد بالاشتراك متحدين في أداء العمل”. يعني أن أفراد القوم الواحد هم مجموعة من أبناء الإنسان يقطنون زاوية من الأرض وينهضون معاً في القيام بعمل مشترك، يقومون به.

3. الشعب: كلمات شعب وشعبة وانشعاب، ترجع كلها إلى أصل واحد. وتعني أن أبناء الإنسانية على الأرض صاروا شعبة شعبة، وكل شعبة تمثل شعبًا واحدًا أي: أنهم انفصلوا جماعة جماعة، والمجتمع هو شعبة من مجموع البشرية.

4. الطبقة: مجموعة من أبناء الإنسان لهم حياة أو هيئة وعمل ووارد متشابه ومتساو. وهؤلاء يشكلون “الطبقة”. فالأفراد الذين يحتلون موقعاً في طبقة واحدة يتشابهون في لون العمل والحياة وحجم الاعتبار الاجتماعي والوارد المالي، هؤلاء يشكلون جماعة ومجتمعاً، وفي الاصطلاح الأجنبي Social cases . إذن فارتباط هؤلاء يتم عبر اشتراكهم في العمل والوارد أو لون الحياة وخصوصاً وضعهم وموقعهم الاجتماعي.

5. المجتمع أو الجامعة: وهذه الكلمة اليوم هي الاصطلاح الشائع في الوسط العام كما أنها المفهوم العلمي. المجتمع (Society) يعني لدينا وفي أوروبا أيضًا: تجمع أبناء الإنسانية في مكان واحد. ومن هنا فأهم رابطة وأساس هذا المجتمع، والمضمون الأساس للروابط الاجتماعية هو “اجتماع أبناء الإنسانية في مكان واحد”.

6. الطائفة: جماعة إنسانية تدور حول محور خاص أو تطوف حول منطقة خاصة. ففي الصحراء تطوف كل جماعة حول بئر من الماء، وتتجول كل جماعة في دائرة خاصة من الأرض التي تكون عادة مرتعها.

7. (Race) العنصر أو العرق “نـﮋاد” بالفارسية: جماعة من أفراد الإنسان تتشابه وتشترك في خصوصيات بدنية كالشكل واللون والدم.

8. (Mass) جمهور “توده” بالفارسية: مجموعة من أفراد الإنسان تنتشر فى بقعة معينة.

9. (People): جماعة من أفراد الإنسان تسكن بقعة معينة من الأرض، المواطنون.

10. ونظير ذلك Group بمعنى جماعة، و Party حزب، وTribe، Clan عشيرة، و”إيل” بالفارسية؟

أما الإسلام فقد انتخب كلمة “الأمة” بدل هذه المفاهيم لتسمية الجماعة الإنسانية التي يشكلها.ونلاحظ هنا أيضاً التوجه الإسلامي الخاص والمدهش وهو :استناد الإسلام إلى “الحركة” كأصل. ولكنها الحركة التي تعتمد جهة مشخصة وثابتة. فجمع الإسلام هذا النحو بين الثبوت الدائم والحركة المستمرة وهذا الجمع تقوم على أساسه الرؤية الكونية الإسلامية بكاملها كما يتضح هذا الأصل في الطواف حول الكعبة أيضًا. فالطواف: حركة مستمرة ودون وقفة أو انحراف أو تراجع، لكنها حول محور ثابت.

من هنا فكل الاصطلاحات التي استخدمت في الثقافة الإسلامية لوسم الدين – في ضوء مختلف الأفهام – جاءت بمعنى “الطريق”، وهذا اللون من الرؤية نعثر عليه في غالب الاصطلاحات الرئيسة للإسلام: مذهب، مسلك، شريعة، سبيل، صراط… كلها بمعنى “الطريق”. الحج “قصد محل” الهجرة…
كلمة “أمة” مأخوذة-أيضًا- من “أم” بمعنى قصد وعزم. وهذا المعنى يتركب من ثلاثة معان “حركة”،و “هدف” و”قرار واع”؛ وحيث إن “أم” تنطوي في أصلها على مفهوم “التقدم”؛ أيضاً يضحي هذا المعنى مركباً من أربعة معان: 1 – اختيار 2 – حركة 3 – تقدم 4 – هدف.

ومع حفظ جميع هذه المعاني تبقى كلمة “الأمة” في الأصل بمعنى “الطريق الواضح”، أي: جماعة إنسانية تعني “الطريق”!
إذن، فالقيادة والاقتداء، المسير والطريق، تنطوي في كلمة “الأمة”. وعليه : فالإسلام لم يعتبر الدم، أو التراب، أو التجمع، أو الاشتراك في المقصد والعمل وأدواته، أو العرق، أو الاعتبار الاجتماعي وطراز المعيشة…الرابط الأساس والمقدس بين أفراد الإنسانية. ليس أي من هذا العلائق، إذن فما هو الرابط الأساس والأقدس في نظر الإسلام؟ إنه “المسير”، جمع من أبناء الإنسانية ينتخبون طريقاً واحداً لأجل “المسير”!

واضح حسن وامتياز هذه الكلمة “الأمة” على الكلمات الأخرى، نظير: (Nation) قوم، قبيلة، شعب، حيث إن كل هذه الكلمات لا تتضمن معنى إنسانياً متقدماً سوى كلمة “قبيلة”، التي تمثل أفضل اصطلاح اختاره البشر ليطلق على مجتمعهم، حيث تعني اشتراك أبناء الإنسانية في قبلة وهدف، وهذا الامتياز تتوفر عليه كلمة “الأمة” أيضاً؛ فحينما نقول: طريق ومسير واقتداء واشتراك أبناء الإنسانية في قيادة مشتركة، نعني الحركة باتجاه هدف وقبلة يمضي إليها ويقاد لها الجميع.

و”الأمة” تمتاز على القبيلة بميزة أيضًا، وهي:أن “الأمة” كالقبيلة تجعل الاشتراك في “القبلة” ملاك الرابطة الإنسانية والقرابة المعنوية والواقعية، وعلة الاجتماع في مكان واحد، ففي “القبيلة” اشتراك في الهدف، لكنها لا تتضمن الحركة باتجاه الهدف؛ إذ من الممكن أن يكون لأبناء الإنسانية هدف، وإيمان بقبلة واحدة، ولكن ليس لديهم أي ضمان أو التزام بالنسبة للمسير باتجاهه ذلك الهدف، وإنما هم متحدون في الاعتقاد والهدف (فكريًا و إحساسيًا)، كما هو حال مجتمعنا المسلم اليوم فله هدف وفكر مشترك، لكنه لا يخطو خطوة باتجاه !! فالهدف الذي يعتقدون به في جهة، والهدف الذي يتحركون باتجاهه في جهة أخرى!!!

أما في “الأمة” فالحركة باتجاه القبلة المشتركة أساس الفكر. و في ضوء تحليل كلمة الأمة – نجده يتضمن المفاهيم الآتية:

1- الاشتراك في الهدف والقبلة.

2- المسير باتجاه القبلة الهدف.

3- وجوب القيادة والهداية المشتركة.

إذن، فالأمة – على أساس ما يُستخلص من تعريف في ضوء مجموع المعاني التي تحتويها الكلمة – عبارة عن: جامعة إنسانية يشترك جميع أفرادها في هدف مشترك، وقد التف بعضهم حول بعض، لكي يتحركوا باتجاه هدفهم المرجو على أساس قيادة مشتركة([1])       

ويرتبط مفهوم الأمة قرآنياً بمفهوم آخر هو مفهوم الشهادة  يقول تعالى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا|) [البقرة:134] والشهادة هنا لا تعني القتل، وإنما تعني: أن ثمة شيئاً غائباً في طريقة إلى الزوال والأفول ومغادرة الميدان، يكاد الناس ينسونه تدريجياً؛ والشهيد يشهد لهذا المظلوم المقهور المخنوق الصامت، ومن ثم يعيده إلى الأوساط من جديد.

وللشهيد هنا معنى آخر: فالنبي شهيد وإن لم يقتل، إنه شهيد بدون أن يكون مقتولاً، ومهمة الأمة الإسلامية التي بينها القرآن ومسؤوليتها “الشهادة”، الشهادة بدون قتل، مهمة الأمة أن يكونوا شهداء كما كان الرسول شهيداً عليهم، وعليه فإن مقام الشهادة، ومفهومها ومداها أعم وأعلى وأوسع من القتل، غاية ما في الأمر أن من يضحي بنفسه يؤدي الشهادة بأعلى وأرقى صورها ومراتبها، لأن أفراد المسلمين مكلفون بإقامة المجتمع “الشهيد” والقدوة للآخرين كما أن النبي نموذج وقدوة نبني أنفسنا على أساسه، النبي “شهيد” علينا ونحن “شهداء” على الناس.

فالشهيد هنا بمعنى “فارس الميدان” “وسط الأمر” “نموذج” “قدوة” “مثال يحتذي به الآخرون” ويقومون أنفسهم على أساسه، يعني أنكم اجعلوا النبي وسط ميادين الثقافة، الإيمان، والعلم والفكر، والمجتمع واتخذوه قدوة في بناء  شخصياتكم، مجتمعكم، ثقافتكم، ظاهركم وباطنكم، وحينما صنعتم أنفسكم على أساس ذلك النموذج وتوسطتم ميادين الجغرافيا والتاريخ، يجب حينئذ على باقي الأمم والشعوب أن تقتدي بكم وتبني نفسها على مثالكم.

فهم شهداء، يعني أن النبي يؤدي لهم دوره، ويقومون هم بدورهم لغيرهم من الأمم، فيؤدون دور النموذج والإنسان والأمة القدوة.

ولهذا أصبح معنى “أمةً وسطًا” يناسب معنى الشهيد و يلتئم معه تمامًا، فغالبًا ما يفسرون “أمة وسطًا” بمعنى الأمة المعتدلة، الأمة التي لا تُبتلى بالإفراط والتفريط، لا تغرق في الماديات ولا في الروحانيات، الأمة التي توازن بين الروح والجسد والماديات والمعنويات وتسلك في سبيل ذلك طريق الاعتدال والوسط.

وهذا المعنى مأخوذ في أساس الرسالة، بيد أن “الوسط” المقصود في رسالة الأمة التي يراد لها أن تكون “شهيدًا” على الناس له معنى أعظم بكثير، يعني أننا “أمة” نتوسط الميدان، ميدان الأرض والزمان، نحن “فرسان الميدان”، نحن قطب القضية، نتوسط الساحة، لا نكون شرذمة تدور حول نفسها في أقاصي “الشرق الأوسط”، بعيدة غافلة عما يدور حولها، غافلة عن معارك الأفكار والقضايا المصيرية التي تبني حاضر البشرية وغد التاريخ وتشكل صورة الحياة في كل مجال، لا نعرف سوى الاجترار وتكرار المكررات ثم تغمرنا السعادة! كلا، إنما ينبغي أن نكون وسط الساحة ومحور الميدان.لا نكون أمة غائبة، معتزلة، بل يجب أن نكون مجتمعًا أمميًا في وسط الشرق والغرب، اليمين واليسار، مركز الأقطاب، وسط المعترك يحمل رسالته العالمية، كذلك الشهيد إنسان شاهد حاضر في جميع المواقف والميادين ليس بغائب عنها.([2])

 


([1]) انظر: علي شريعتي: الأمة والإمامة, مراجعة حسين على شعيب ,بيروت,دار الأمير2006, ص 41.

([2]) انظر : علي شريعتي: الحسين وارث آدم, ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا, بيروت, دار الأمير 2004، ص303.