كانوا يحتفلون بيوم العلم – ذكرى وفاة ابن باديس !!!- ويشيعون الجهل في طول البلاد وعرضها حتى أصبحت الجزائر تصنّف في ذيل ترتيب الجامعات خاصة ومستوى التعليم عامة ، وهم يريدون اليوم إهالة التراب وبالضربة القاضية على ابن باديس وجهاده وتراثه باختراع هوية جديدة للجزائر تُزعزع الثوابت في مرحلة أولى للوصول إلى إلغائها كما ترغب الأقلية الإيديولوجية منذ زمن بعيد.
انتقيتُ من تراث عبد الحميد بن باديس نُقولاً تلخّص جهاده الذي بذل في سبيله حياته كلها إلى آخر يوم منها ، من أجل الثلاثية الخالدة : الاسلام ، العربية ، الجزائر ، وقد تركَنا – رحمه الله – على المحجّة البيضاء فالتفّ حولها الشعب ، حتى إذا مرّ ردح من الزمن اكتشفت لنا النخبة العلمانية المتنفّذة هوية جديدة تهدف في أبعادها إلى إلغاء ثوابت الأمة ، فهل من مقارنة بين تراث ابن باديس وجديد التغريبيين والبربريست (دعاة الأمازيغية)؟
قال الإمام للطالب عمار مطاطلة : ” قومي هم العرب أولا والمسلمون ثانيا ، فهم شغل خاطري وهم مجال سرائري ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نصبح فرنسيين حتى لو أردنا ذلك ، ونحن لا نريد ذلك ، لأننا شعب وأمة لها دينها ولغتها ومقوماتها وتاريخها الخاص المتميز ، والجزائر وطننا وأرضنا وما فرنسا إلا احتلال واستعمار ابتلينا به .”
بمناسبة المولد النبوي وبكلية الشعب بقسنطينة وقد غصّت بالحضور يرتجل الإمام قصيدة عصماء يوم 2 ماي 1937 مطلعها :
حييت يا جمع الأدب ورقيت سامية الرتب
وفيها البيت الذي شاع وذاع وطبقت شهرتُه الآفاق ، وما زال غُصة في حلوق الاندماجيين القدامى والحاليين :
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
والذي سيصبح شعار الأمة من جهة وعقدة الأقلية التغريبية من جهة أخرى إلى الآن ، وبسببه – لأنه يلخص فلسفة ابن باديس – يكنّون بغضا دفينا للشيخ رحمه الله لم يتمكنوا من كتمانه حتى أفصحوا عنه أكثر من مرة واتهموه بأنه ” الأصولي الأول “.
وبقي الشعب وفيا للشعار الباديسي ، وعندما اندلعت حرب التحرير ضمّنه الشعراء نظمَهم ، فقال أحدهم في نشيد كتبه أثناء الثورة :
” نحن أبناء العروبة كما قال ابن باديس “.
وسيرا ضدّ تيار الشعب يرفضون اليوم الانتماء العربي الاسلامي ويخترعون لغطا سخيفا يسمونه لغة وهوية وطنية.
ولا بدّ من التذكير بأن تلك القصيدة الباديسية أصبحت نشيد المدارس والمعاهد التابعة لجمعية العلماء ، يفتتح التلاميذ يومهم الدراسي بالشعار الخالد : الاسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا ثم ينشدون ” شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب .
وفي 23 سبتمبر 1937 يرتجل الامام قصيدة بمناسبة انعقاد المؤتمر الثاني للجمعية بقاعة الماجستيك بالعاصمة مطلعها :
أشعب الجزائر روح الفدا لما فيك من عزة عربية
بنيت على الدين أركانها فكانت سلاما على البشرية
وها هم اليوم يهيلون التراب على كلّ هذا باسم هوية جديدة مصطنعة لم ينتبه إليها قادة الأمة منذ الفتح الاسلامي ، ومنهم ابن باديس رغم أنه صنهاجي من سكان الجزائر الأصليين.
وفي أحد الأيام يأتي ضابط شرطة فرنسي يُبلغ الإمام فحوى قانون أصدرته الحكومة يقضي بمنع تعليم اللغة العربية واستعمالها في المدارس واعتبارها لغة أجنبية ، فيقول له الشيخ : ” إنكم لا تقدرون أبدا على تطبيق هذا القانون الجائر لسبب بسيط هو أن هذا الشعب له لغته وهي العربية ن ودينه وهو الاسلام ووطنه وهو الجزائر (…) إنكم لا تعرفون شيئا عن هذا الشعب وتريدون كل مرة وبجرة قلم أن تستبدلوا بحضارته حضارة أخرى ومقوماته بمقومات أخرى وتاريخه بتاريخ آخر ، وهذا أمر مستحيل لو أنكم فكرتم قليلا .
سبحان الله ، كأن ابن باديس يتكلم في أيامنا هذه !بالفعل لم يقدر الاحتلال الفرنسي على فعل ذلك فهل يقدر غيره ؟
وهناك مسألة مهمة طالما عمل التغريبيون على طمس معالمها هي تواجد جمعية العلماء بمنطقة القبائل منذ أيامها الأولى ، ففي عام 1938 زار الامام ابن باديس مدينة “تيزي وزو” رفقة الفضيل الورتلاني وباعزيز بن عمر وآخرين ، ونزل ضيفا على شعبة الجمعية بالمدينة وألقى درسا بالمسجد ، وبين يديه ألقى الشيخ بن عمر كلمة جاء فيها : ” إن هذه المنطقة منطقة مسلمة محافظة على الدين واللغة ( أي العربية ) عبر التاريخ ، بل إنها عملت على المحافظة على الدين واللغة والقيم الأخلاقية ونشرها عبر الزوايا ومدارس القرآن بإيمان وعزيمة إلى أن جاء الاستعمار ووحشيته فأصبحت المنطقة تعاني من مشكل كبير وحاد ، هو عمل شيطاني لا يقوم به إلا الاستعمار البغيض الذي يدّعي كذبا وافتراء المحافظة على هوية الشعوب ومقوماتها في الوقت الذي يعمل فيه بلا هوادة من أجل تنصيرها وتمسيحها وإبعادها عن دينها. “
لنا أن نسأل قبل الاستطراد : هل كان الشيخ بن عمر يصف حال الجزائر في 1939 أم في 2016 ؟ وما الفرق بين التاريخين سوى خروج الاستعمار العسكري؟
ويعقّب الامام على زميله وعلى كلام بعض الحاضرين الذين اشتكوا من العمل التنصيري الذي تقوم به فرنسا في المنطقة فيقول : ” نعرف جيدا أن الحملة على بلادنا كانت بدافع ديني في أذهان المستعمرين ، فقد وعد العقيد كلرمون تونير الملك شارل العاشر أن الحملة على الجزائر ستحقق انتصار الكنيسة الكاثوليكية على الاسلام واستعادة المسيحية إلى الجزائر كما كانت قبل الاسلام ” .
بعد مغادرة بلاد القبائل كلّف الامام أحد طلبته النجباء بإعداد بحث وافٍ عن النشاط التنصيري في الجزائر منذ احتلالها ففعل ذلك وألقى عرضا بالجامع الأخضر بقسنطينة ، وفي ختامه علّق الإمام بما يلي : ” الاحتلال الفرنسي لبلادنا لم يكن لغاية اقتصادية أو عسكرية أو سياسية فحسب بل إن أهمّ غاياته غاية ثقافية حضارية ، فيترتب عنها أن نكون دائما يقظين واعين وعيا كاملا بالتهديد الذي يترصّدنا في ثقافتنا وحضارتنا ” .
فأين ما أوصى به من يقظة و وعي وفينا من يبتهج بهوية جديدة للجزائر على أنقاض الإسلام والعربية ؟
وبعد وفاة الإمام المصلح بأربعين يوما قال الشيخ العربي التبسي في اجتماع بإخوانه بقسنطينة : ” الأهم أن نتعاهد جميعا على الوفاء لمبادئ ابن باديس في التمسك بالدين واللغة العربية والتضحية من أجل الجزائر “.
وقد وفوا ولقوا الله جميعا على ما عاهدوا عليه لكن خلف من بعدهم بعض الخُلوف ما وفوا لأنهم ببساطة لا يؤمنون بتلك المبادئ والثوابت بل بعكسها من تغريب وتنصير وعُجمة لغوية وخدمة للمشروع التغريبي الفرنكوفوني ، يسندهم بعض السذج الذين لم يبصروا نُذر الحملة على الثوابت ومعاول هدمها فأحسنوا الظن بها وساعدوها ، لكنها ضائقة وتنجلي بالتفاف الشعب حول هويته ووفائه لإرث ابن باديس.