كثير ما يُلجم الباحثون المقتدرون الموثوقون في عالمنا الإسلامي عن البحث في قضايا علمية وفكرية وتاريخية عويصة بحجة أن الخوض في هذه القضايا يحيي الفتنة ويوهن الأمة ويشوش العامة ولا يخدم إلا أعداءها.
وكثير ما تعزز هذه الحجة المزعومة بنصوص وشواهد منسوبة إلى الرسول – ﷺ – أو أحد من السلف الصالح تنهى عن الخوض في الفتنة نهياً شديداً. الأمر الذي أدى إلى بقاء إشكاليات خطيرة وتحديات كبيرة تنخر في جسد أمتنا عبر عقود بل وربما قرون طويلة دون معالجات بحثية عميقة ورصينة. ومن ثم؛ أدى عدم معالجة هذه الإشكاليات الخطيرة وإغلاق باب البحث المعمق فيها خشية الفتنة الموهومة إلى فتح باب كبير لفتن حقيقية سوداء كقطع الليل المظلم طال أمدها.
وبالتدقيق في تلك النصوص التي تنهى عن الخوض في الفتنة والتي ألجم الباحثون بها – بل أرهبوا بها – ينكشف لنا أنها ليست حجة، إما لعدم صحتها، أو أنها تفهم على غير وجهها وتوظف في غير محلها.
من أشهر هذه النصوص ما روي عن الرسول – ﷺ – (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها)، كما روي بلفظ: (إن الفتنة راتعة في بلاد الله تطأ في خطامها لا يحل لأحد أن يوقظها، ويل لمن أخذ بخطامها)، والحديث ليس بحجة لأن في أسانيده مجاهيل وضعفاء، ولو صح فإنه لا يفيد المنع من البحث العلمي في قضايا الفتنة، فمعنى الفتنة في هذا النص كما يقول المناوي في فيض القدير: “المحنة وكل ما يشق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} كذا في الكشاف”.
ومن أبرز هذه الشواهد التي ألجم بها الباحثون إنكار الإمام أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي – رحمهما الله – تصنيفه كتاباً يرد فيه على المعتزلة. وهذا الشاهد وُظف في غير محله، وحُمل على غير محمله، فكما يقول الإمام أبو حامد الغزالي – رحمه الله – في كتابه “المنقذ من الضلال” معلقاً على إنكار من أنكر عليه تقرير حجة أصحاب الدعوة الباطنية في سياق رده عليهم:
“وهذا الإنكار من وجه حق، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي – رحمهما الله – تصنيفه في الرد على المعتزلة؛ فقال الحارث: (الرد على البدعة فرض)، فقال أحمد: (نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها؛ فبمَ تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه؟)، وما ذكره أحمد بن حنبل حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر. فأما إذا انتشرت، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية. نعم ، ينبغي أن لا يتكلف لهم شبهة لم يتكلفوها”.
وفي الواقع أن الترهيب من البحث العلمي في القضايا الإشكالية بحجة أنه يحي الفتنة استغله فئات من أهل الفتنة أنفسهم لا سيما “الباطنيون الجدد”.
ذلك أنه كلما وجدوا من يسعى للكشف عن أحوالهم ويحذر من تلبيسهم شهروا في وجهه سلاح الطائفية، واتهموه بأنه يثير الفتنة الطائفية – مع أنهم هم الطائفيون بامتياز – حتى أصبح كل نقد يوجه لهم أو أي بيان يكشف حقيقة فتنتهم يحكم عليه بأنه مما يقسم الأمة، ويمزق وحدتها، ولا يفيد منه إلا الأعداء – وكأن “الباطنيين الجدد” ليسوا من أعداء الأمة.
وخوفاً من هذه الفتنة “الموهومة”، وتمزيق الأمة المزعوم، ودعوى خدمة الأعداء: كف كثير من الباحثين المقتدرين عن نقد “الباطنيين الجدد”، بل تقمصوا دورهم وتفوقوا عليهم في التحذير، حتى بلغوا حد الترهيب والوعيد، لكل من نطق بكلمة ضد هذه الطائفة الباطنية وقادتها، على الرغم من اشتهار فتنة الباطنية الجديدة وانتشارها، وعلى الرغم من أن أتباع هذه الطائفة أنفسهم لا يكفون عن الخوض في قضايا الفتنة مع تزييف وتدليس وخبث، وعلى الرغم من أنهم أصحاب مشروع أمة مناوئة قائمة على نزعة شعوبية طائفية حاقدة بغيضة، وعلى الرغم كذلك من كل ما وقع على أمتنا بأيدي جماعات باطنية عبر تاريخ الأمة قديماً وحديثاً من كيد ماكر وعدوان سافر ومشاريع هادمة وخيانات كبيرة وتصفيات غادرة خسرت بسببها الأمة خلفاء راشدين وقادة مؤثرين وعلماء راسخين ودعاة مخلصين ومؤمنين صادقين وأدت إلى كثير من الفتن الكبرى والمصائب العظمى والمشاكل المعقدة.
ومما زاد الطين بلة أن إحجام الباحثين المقتدرين الثقات عن فتح هذه الملفات العويصة خشية فتح باب “الفتنة الموهومة” قابله تجرأ باحثين غير مقتدرين أو غير ثقات على الخوض في تلك القضايا العويصة مما أدى إلى ظهور صنفين من المعالجات للقضايا العويصة: إما معالجات سطحية من قبل غير المقتدرين أو معالجات مدلسة أو مغرضة من قبل “الباطنيين الجدد” أنفسهم أو من يميل معهم أو يعمل لصالحهم بمقاصد سيئة أو بسذاجة مفرطة.