من المعلوم أن الحروب دائما ما تحرق الأخضر واليابس، وتقضي على استراتيجيات الدول الطامحة إلى بناء حضارة على أساس صلب. لذا فإن أيَّ دولةٍ عرفت الحروبَ فترةً من الزمن، لا بد وأن تفتقد نسبة من ممتلكاتها، إبان تلك الحرب، تختلف نسبة تلك الممتلكات باختلاف طبيعة الحرب ومدتها الزمنية.
وبعد انتهاء أيِّ حرب بين دولتين، ستسعى كل منهما إلى ترميم حضارتها من جديد، متناسية ما خلفته الحربُ من جروح في كيانها المثقل بالخسائر. بيدَ أن طريقة ترميم تلك الحضارة – التي هدمتها الحرب- ستختلف هي الأخرى من دولة إلى أخرى باختلاف كمية الأفكار التي كانت تستند عليها كل من هاتين الدولتين، قبل وأثناء تلك الحرب التي أهلكت الحرث والنسل. وبالتالي فإن الدولة ستحاول إعادة بناء حضارتها انطلاقا من رصيدها الفكري، إن كانت أصلا تمتلك رصيدا.
إن الحضارة التي استطاعت ألمانيا أن تؤسسها بعد الحرب العالمية، التي قضت على كل ممتلكات هذه الدولة، تؤكد بوضوح أهمية الأفكار وقدرتها على استعادة الحضارة. كما تؤكد أن الدولة التي تمتلك رصيدا أكبرَ من الأفكار القوية الطموحة، هي التي ستستطيع أن ترمِّمَ حضارتها من جديد، لتواجه مشكلات الصراع.
فأكثر الحروب أكدت أن السلاح قد يكون وسيلة لمواجهة العدوان، لكنه لا يصلح لبناء الحضارة من جديد، بينما الأفكار قد تصلح وسيلة لمواجهة العدوان، وبعث الحضارة، بعد موتها بسبب الحروب.
يقول مالك بن نبي في كتابه:(ميلاد مجتمع) متحدثا عن أهمية الأفكار وقدرتها على انتشال الحضارة من براثين الضياع:”..لقد مرّت ألمانيا بتلك الظروف ذاتها، كما تعرضت روسيا لبعضها، إبان الحرب العالمية الأخيرة. وقد رأت الدولتان – وخاصة ألمانيا – الحرب تدمر (عالم الأشياء) فيهما، حتى أتَتْ على كل شيء تقريبا، ولكنهما سرعان ما أعادتا بناء كل شيء، بفضل رصيدهما من الأفكار”.
من هنا أقول إن الدول الإسلامية عليها أن تجعل من الأفكار جيشا جديدا، بعد جيشها التقليدي، لمواجهة العدوان وتأسيس الحضارة. فالعمود الفقري للمجتمعات والدول هو الأفكار. وهذا ما دفع مالك بن نبي إلى أن يبدأ حديثه حول “ثروة المجتمع وأمراضه” بهذه الجملة المقتضبة:”لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من الأشياء بل بمقدار ما فيه الأفكار”.
إن هذه المقولة، تكشف لنا بجلاء أهمية الأفكار، ودورها في حل الجزء الأكبر من “مشكلات الحضارة” التي تعاني منها الدول الإسلامية. فنحن من خلال الأفكار النبيلة نستطيع بعث حضارتنا من جديد إن طمستها الحروب، لكننا قد لا نستطيع ذلك من خلال الجيوش وحدها، لأن الجيش قد يصيبه الوهن، فتجتاحه الهزائم. وهذا ما حدث لأغلب الجيوش العربية التي خاضت حروبا ضد عدوها، وها هي الآن تعيش في مستنقع الهزيمة، لم تستطع استعادة حضارتها لانهزامها على مستوى الأفكار والعقائد أولا، والسلاح والحرب ثانيا.
إن تخلي الجيوش العربية الإسلامية عن الأفكار والقيم الإسلامية الأصيلة، هو الذي منعها من استعادة حضارة شعوبها، وقيادتها للأمم، فلو تمسكنا بأفكارنا النبيلة لاستطعنا أن نحافظ على حضارتنا المليئة بالانتصارات، لكن الوهن شاخَ في قلوبنا فهزمتنا الدول الغربية بأفكارها التي تنشر في بيوتنا من خلال وسائلها المتعددة، كي لا تجد عناء في هزيمتنا بالجيوش بعد ذلك.
لقد نبهنا النبي ﷺ منذ زمن طويل إلى ضرورة تمسكنا بأفكارنا وعقائدنا الصحيحة، من أجل أن نظل “قادة الدنيا وسادتها”، لكن لعلنا لم نفهم فحوى خطاب الرسول الكريم حين قال: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلةٍ نحن يا رسول الله؟، قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله، قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت.
من خلال هذا الحديث يمكن أن نستنتج جملة من الحقائق العليمة الكبيرة، من أهمها: أن العبرة ليست بالعدد، وانطلاقا من تلك الحقيقة يمكن القول: إن ارتفاع عدد أفراد أيِّ جيش لا يكفي وحده لهزيمة جيش آخر، لكن ارتفاع نسبة الأفكار التي يتسلح بها أحد هذه الجيوش هي التي بإمكانها أن تقف وراء انتصار جيش ضد جيش آخر.
إن التاريخ شاهد على أن الأمة الإسلامية انتصرت في عدة معارك على أعظم الجيوش، بالإيمان والأفكار، لا بالعدة والعتاد فقط. فهل ستفهم أمتنا من جديد ضرورة التشبث بالأفكار والعقائد في الصراع المحتدم، أم أنها ستظل تترنَّحُ في دوَّامة الوهن؟؟.