برز في القرن العشرين مصطلح “الفكر العربي”، وتصدّر المشهد بقوّة بعد الانقلابات العسكرية العربية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وغدونا نرى أشياء كثيرة تُنسب إليه، كمؤسسات “الفكر العربي”، ورموز “الفكر العربي”، ورواد “الفكر العربي” ومنتديات “الفكر العربي”.كل هذه الأمور تُنسب إلى الفكر العربي وكأنَّ قضية وجود الفكر العربي قضيّة مسلَّمة بدهيَّة لا يختلف عليها اثنان. بل ووصل الأمر إلى مستوى الحديث عن تجديد “الفكر العربي”، وكأنَّه بناءٌ معرفي قديم تداولته القرون السالفة وتاليًا صحَّ أن يكون مناطًا للتجديد والتطوير.

نريد في هذه المقالة أن نختبر هذا الفكر من حيث وجوده ماهيةً، هذا الفكر الذي لا يُطرح باعتباره منظومةً معرفيةً منافسةً للمنظومة الغربية، وإنما في إطار تنافسي مع المنظومة الإسلامية، أي في إطار التمييز بين مظومتين معرفيتين يشكّل الوطن العربي وعاءً جغرافيًا وتنافسيًا لهما.

قبل أن نحكم إثباتًا أو نفيًا على الفكر العربي لا بد أن نتفق على التصوّرات حتى لا نقع في خلاف لفظي وهمي حول موضوع هذه المقالة. ولذلك نحتاج أن نعرّف الفكر العربي ونتفق على ذلك، فما تعريف الفكر العربي؟

حين نتحدث عن “فكر” فنحن بالضرورة نتحدث عن نشاط عقلي، والنشاط العقلي بالتأكيد لا يعمل في فضاء خاوٍ، وإنما ثمة معطيات ومقدمات مرتبط بالمجال العام تشكّل مادة للحركة العقلية. وبما أنَّ هناك نشاطًا عقليًا ومقدمات تشكّل مادة ذاك النشاط فإننا أمام منتجات “فكرية” إذن.

إذن أي تعريف للفكر _أي فكر_ لا بد أن يتضمّن مقدمات ونتائج ناتجة عن نشاط عقلي. وبما أنَّ المقدمات تبتلعها نتائجها، أي أن النتائج هي مقدمات وزيادة _إن لم يكن قياسًا أرسطيًا أو استقراءً غير ناقص_ فإذن يصح لنا الاكتفاء بذكر النتائج عن المقدمات. (ويمكن أن نعبّر بالمنتجات بدل النتائج بوصفها صورة نهائية).

بقي لنا شيءٌ آخر، وهو المنهج، أي طريقة الانتقال من المقدمات إلى النتائج، فالعقل لا ينتقل من مقدمة إلى نتيجةٍ ما إلا إذا كان لديه مبرر يجعل من تلك المقدمة صالحة فعلا لتوليد تلك النتيجة، وهذا المبرر هو ما نسميّه منهجًا.

بناءً على ما مضى يصحُّ لنا تعريف الفكر بأنه هو مجموع المنتجات والمناهج الناشئة عن عقلٍ ما، وإذا أضفنا وصف “العربي” للفكر فإنَّ تعريف الفكر العربي يكون: هو مجموع المنتجات والمناهج الناشئة عن العقل العربي.

وهذا التعريف يُخرج الأديان؛ لأنَّ الأديان ناشئة عن وحي لا عن عقل. كما أنه يخرج السحر والتنجيم والشعوذة وغير ذلك؛ لأنَّ هذه الأمور ليست مرتبطة بنشاط العقل الذي يشكّل مناط الفكر.

هذا هو تعريفنا للفكر العربي. فإذا كان القارئ لا يُقر بصحة هذا التعريف فإنَّ مواصلة قراءة هذه المقالة تصبح كالشخص الذي يقر بأنَّ الطريق خاطئ ومع ذلك يُتعب قدميه في المسير. أما من يتفق مع هذا التصوّر فإننا نأتي معه إلى مرحلة الحكم، أي هل الفكر العربي_وفقًا للتصوّر السابق_ حيٌّ يُرزق أم أنَّه لم يُولد أصلاً؟

يزعم صاحب هذه المقالة أنَّ تاريخ المعرفة لم ينجب مولودًا اسمه الفكر العربي. والذي يرفض هذه الدعوى عليه إثبات نقيضها من خلال إثبات وجود منتجات ومناهج ناشئة عن العقل العربي. فقد قرّر علماء الجدل أنَّ الدليل في الأصل يلزم المثبِت وليس النافي. أي أنَّ الذي يدّعي وجود شيء هو المطالب بالتدليل على ذلك وليس النافي له؛ لأنَّ النافي متمسّك بالأصل وهو العدم، أما المثبت فيريد إضافة شيءٍ على ذلك الأصل، وتاليًا عليه إثبات دليل تلك الإضافة.

ومن هنا نسأل من يثبت وجود الفكر العربي: إذا اتفقنا على أن الفكر هو منتجات ومناهج ناشئة عن عقلٍ ما، فما المناهج والمنتجات الناشئة عن العقل العربي؟

دعوى هذه المقالة أنه لا توجد لا منتجات ولا مناهج ناشئة استقلالاً وأصالةً عن العقل العربي، ولتوضيح ذلك نقول: إذا ارجعنا البصر إلى “الفكر الغربي” فسنرى منتجاتٍ فكرية لا حصر لها، بدءًا من العهد الأثيني وانتهاءً بعصرنا، فلدينا المنهج السوفسطائي والمنهج الأفلاطوني الإشراقي والمنهج الأرسطي الصوري والمنهج التجريبي والمنهج الماركسي الديالكتيكي …الخ، وهذا المناهج اُعيد هيكلتها بصور مختلفة لتشكّل مناهج تكاد تكون مستقلة.

هذا من حيث المناهج، أما من حيث المنتجات الفكرية فهي أكثر من أن تُحصر، فلدينا مثلاً الديمقراطية والسيادة والليبرالية الكلاسيكية والحديثة، والماركسية العلمية وغير العلمية، والاشتراكية، والقومية، والعلمانية والفاشية والنازية …. الخ.

إذن ثمة شيء اسمه “فكر غربي”؛ لأنَّ ثمة مناهج ومنتجات نائشة عن العقل الغربي.

والسبب الذي جعلنا نقرُّ بوجود “فكر غربي” هو السبب ذاته الذي يجعلنا نقرُّ بوجود “فكر إسلامي”، فالعقل الإسلامي قد أوجد مناهجه ومنتجاته الفكرية الخاصة. أما مناهجه فقد عبّر عنها العقل الإسلامي من خلال علم أصول الفقه، الذي يشرح منهجية استنباط الأحكام من النص من حيث هو نص (أي سواء كان دينيًا أو غير ديني)، ويشرح كذلك مصادر الاستنباط (المقدمات الكبرى) التي تتولَّد عنها الفروع اللامنتهية.

والقواعد والآليات التي ذكرها علماء الأصول ليست ناتجة عن وحيٍ في مجملها، وإنما هي نتاج استنباط العلماء المجتهدين، ولذلك ثمة اختلاف بين علماء أصول الفقه في أكثر مسائله. كما أنَّ علماء الإسلام تباينوا في منهجية التعامل مع جدلية النقل والعقل، وترتب على هذا التباين وجودُ مناهج مختلفة: المنهج المعتزلي والمنهج الأشعري والمنهج الأثري.

هذا من حيث المناهج، أما من حيث المنتجات الفكرية، فهي كثيرة جدًا، فكل علوم المسلمين تعدُّ منتجاتٍ خاصة بهم، مثل: أصول الفقه، علم الفقه، علم القواعد الفقهية، علم الجرح والتعديل، علم مصطلح الحديث، علم الكلام ….الخ، كما أنَّ لدينا منتجات فكرية مرتبطة بعلماء محددين، كالاستقراء المعنوي عند القرافي والشاطبي.

هذه المناهج والمنتجات لم يأتِ بها الوحي، وإنما أتى بها العقل الإسلامي، أي أننا لو استنطقنا الوحي مجردًا لما نطق بشيءٍ من ذلك.

الآن بعد أن رأينا مناهج ومنتجات ناتجة عن العقل الغربي تشكّل “فكرًا غربيًا”، ورأينا مناهج ومنتجات ناتجة عن العقل الإسلامي تشكّل “فكرًا إسلاميًا”، أين هي المناهج والمنتجات الناشئة عن العقل العربي التي تشكّل “فكرًا عربيًا”؟

 

إنَّ الناظر في النتاج الفكري للمثقفين العرب يجده نوعين لا ثالث لهما، إما إعادة إنتاج للثقافة الغربية أو إعادة إنتاج للثقافة الإسلامية، ولا توجد منظومة فكرية عربية مستقلة عن هاتين المنظومتين الثقافتين.

لدينا قوميون عرب، لكن القومية ليست منتجًا عربيًا. لدينا اشتراكيون عرب، لكن الاشتراكية ليست منتجًا عربيًا. لدينا ماركسيون عرب، لكن الماركسية ليست منتجًا عربيًا. لدينا ديمقراطيون عرب، لكن الديمقراطية ليست منتجًا عربيًا. لدينا ليبراليون وعلمانيون عرب، لكن لا الليبرالية ولا العلمانية منتجات عربية.

هذه المنتجات الفكرية التي تلوكها عقول المفكرين العرب ليس لها بالعقل العربي نسبٌ ولا قرابة، وإنما هي كلها منتجات تنتمي للحضارة الأوروبية، بل إلى غرب أوروبا حصرًا.

إذا أثبتوا أن ثمة مناهج ومنتجات من نتاج العقل العربي صحَّت دعواهم وبطل مضمون هذه المقالة، وإن لم يجدوا منظومة فكرية من نتاج عقولهم فليتواضعوا قليلاً وليعترفوا أنهم مجرَّد وكلاء للثقافات الأخرى، يسوّقون منتجاتها ومناهجها، وحينذ ينبغي أن ينسبوها لأربابها، فالولدُ شرعًا يُنسبُ لأبيه.

وقد يقول قائل: نعم لا يوجد فكر عربي حاليًا، لكن كان ثمة فكر عربي قديمًا، فماذا عن اللغة العربية وعلومها؟

الجواب: اللغة لا تعدُّ فكرًا، وإنما هي وعاء للفكر. ولو كانت فكرًا لكان كلُّ من يُحسنُ لغةً مفكرًا. ولو سلَّمنا وتنزَّلنا وقلنا إنها منتج فكري، فهي ليست من إنتاج العقل العربي الصرف، وإنما نتجت من العقل الإسلامي، بدليل أنه قبل الإسلام لم يكن هناك لا علم نحو ولا علم بلاغة ولا علم صرف ولا غير ذلك من علوم اللغة. وإنما نشأت جميع هذه العلوم على أيدي علماء الإسلام أنفسهم. والجدير بالذكر أنَّ مؤسسي أهم علمين من علوم اللغة _النحو والبلاغة_ لم يكونوا عربًا أصلاً، فسيبويه مؤسس علم النحو كان فارسيًا. وعبدالقاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة كان فارسيًا من جرجان (شمال إيران).

ولا يفهم القارئ مما سبق أنني أدّعي أن كل نتاج نشأ في الحضارة الإسلامية هو نتاجٌ منتمٍ لها بالضرورة، فابن المقفع والفارابي وابن سينا لهم إنتاج مستقل عن الفكر الإسلامي، لكن هؤلاء ليسوا بعرب.

إذن لا يمكن للغة _سواء من حيث هي مادة ذهنية أو صناعة معرفية_ أن تثبت وجودًا لشيء اسمه الفكر العربي. ومهما يكن من أمر، فإنَّ الذي يقول بوجود فكر عربي قديمًا عليه أن يجيب على السؤال التالي: إذا كان ثمة فكر عربي قديم فلماذا لا ينتسب إليه المفكرون العرب المعاصرون؟

نحن نرى المفكرين الغربيين ينتسبون إلى منتجات مفكريهم القدماء، فنرى مَن ينتسب إلى الليبرالية والماركسية والاشتراكية والفوضوية وغير ذلك. كما نجدهم ينتسبون إلى مناهج الفكر الغربي؛ فنجد مفكرًا ديكارتيًا وآخر هيجيليًا، وآخر كانطيًا، وغير ذلك. في المقابل نرى الإسلاميين ينتسبون إلى منتجاتهم ومناهجهم الفكرية الذاتية، فعلى الصعيد المنهج الكلامي الجامع بين ثنائية العقل والنص هناك من ينتسب إلى الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والأثرية والإباضية وغير ذلك. وعلى صعيد المنهج الاستبناطي هناك من ينتسب إل المنهج الكلامي وهناك من ينتسب إلى المنهج الظاهري. كما أن النسبة إلى المناهج الفقهية الإسلامية معروفة لا تحتاج إلى بيان.

إذن لدى الغربي ما ينتسب إليه، ولدى الإسلامي ما ينتسب إليه، فما بال المفكرين العرب لا يجدون ما ينتسبون إليه؟ إن المفكر العربي إذا انتسب اليوم فإنما ينتسب إلى مناهج الفكر الغربي ومنتجاته، قومي ليبرالي اشتراكي ….، وهذا خيرُ برهانٍ على أنهم لا يملكون تراثًا فكريًا ينتسبون إليه ويشكّل منطلقًا لهم، أو على الأقل يعينهم على الاستمرارية فيما هم فيه.

إذن لا يوجد لا منتج فكري ولا منهج فكري يُنسب للعقل العربي أصالةً، وليس في ذلك استفزازٌ لأرباب هذه الدعوى_تحديدًا القوميين العرب_ وإنَّما هي دعوة صادقة لئن يبيّنوا لنا أين هذا الفكر العربي الذي ما فتئوا من تكراره على أسماعنا؟ بل جعلوا له روادًا ورموزًا ومعاهدَ ومؤسساتٍ، كلها تحت مسمى “الفكر العربي”

ولأجل أنَّ المفكرين العرب لا يملكون منجزًا ذاتيًا، ذهبوا ينسبون إنجازات الثقافات الأخرى إليهم. فالأستاذ الجابري مثلاً يقول في كتابه “الدين والدولة”: “من خلال انتشار الفتوحات ونجاح العرب في الظهور كقوة عالمية”. إن هذه العبارة من الأستاذ الجابري تدلُّ على تكلّف وإجحاف كبيرين، فهل العرب مَن نجح أم المسلمون؟ أي منصف سيقول إنهم المسلمون، لسبب منطقي يسير، وهو أن الجامع المشترك بين كل المنتصرين هو الإسلام، فلم يكن لغير المسلمين مساهمة في فتوحات المسلمين. أما العروبة فلم تكن أصلاً جامعًا مشتركًا بين الفاتحين، فقد كان هناك عربٌ وفرس وأتراك ورومٌ، وفي الدولة العباسية كان للفرس والأتراك نصيبٌ كبير في المساهمة في الفتوحات. أما الدولة العثمانية فهي أصلاً لم تكن عربية. فإذا كان الجامع المشترك الوحيد هو الإسلام وليس العروبة، فلماذا ينسب الأستاذ الجابري الأمرَ للعرب؟

وإن كان للأستاذ الجابري تبريره، فإنَّ آخرين ممن يُنسبون لـ “الفكر العربي” ليس لهم دافع من تضخيم الفكر العربي سوى تقزيم الفكر الإسلامي، بل وصل الأمر بالدكتور محمد المجذوب أن يذكر فصلاً في كتابه “التنظيم الدولي” بعنوان “التنظيم الدولي في كتابات المفكرين العرب”. وأي شخص يقرأ هذا العنوان يتصوّر أنه سيورد كلامًا لنماذج من المفكرين العرب، لكنه أورد نموذجين: الأول منهما أبو نصر الفارابي!!

فمنذ متى كان الفارابي مفكرًا عربيًا؟

الفارابي مفكر تركي وليس مفكرًا عربيًا، فهو مولودٌ في فاراب في تركمستان، لكن لم يجد الأستاذ المجذوب حرجًا في سرقة إنتاج الفارابي ونسبته للعرب، مع أن الفارابي ليس عربيًا أصلاً. إنَّ السعي لتقزيم الحضارة الإسلامية وتغييب إنتاجها لصالح تضخيم الفكر العربي _الذي يعدُّ في عداد المعدومات أصلاً_ هو المبرر الوحيد الذي يمكن أن يجعلنا نفسّر كيف تم تحويل مفكر تركي إلى مفكر عربي!! (مع الإشارة إلى أن الكتاب مطبوع للمرة الثامنة، ويدرس في الجامعة اللبنانية، وربما يُدرَّس لأن مؤلفه رئيس الجامعة اللبنانية. والكتاب فيه سوء فهم للإسلام ناتج عن جهلٍ مركَّب).

ولو قال المجذوب “المفكرون المسلمون” لكان أكثر صدقًا مع نفسه؛ لأن النموذجين المذكورين_الفارابي والكواكبي_ يجمعهم جامع الانتساب إلى الإسلام قطعًا، ولا يجمعهم جامع العروبة قطعًا.

خلاصة ما مضى كله أننا نريد أن نصل إلى نتيجة واضحة، وهي أنه لا يوجد شيء اسمه “فكر عربي”، فليس للمفكرين العرب منظومة فكرية يتحاكمون إلى أصولها ويسوّقون منتجاتها، وإنما هم يدورون في فلك حضارتين أساسيتين: الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية.

لماذا لا يكون الإنتاج الصادر باللغة العربية منسوبًا إلى الحضارة العربية؟

قد يسأل سائل: إذا كان الإنتاج الفكري الصادر عن علماء المسلمين صادرًا باللغة العربية، فلماذا لا يُنسب إذن للفكر العربي؟

لغة الأفكار ليست معيارًا تصنيفيًا لها، ولو صح أن كل من يكتب باللغة العربية يكون إنتاجه تابعًا للفكر العربي، لصحَّ عكسُه كذلك، أي أن كل من يكتب باللغات الغربية يكون إنتاجه تابعًا للفكر الغربي ولو لم يكن له علاقة بالغرب. وهل يمكن أن نقول إن إنتاج مالك بن نبي ينتمي للفكر الغربي لأنه يكتب باللغة الفرنسية؟

قد تقول ليس المعيار الوعاء اللغوي، وإنما مادة الكتابة ومجالها التداولي. قلنا إذا عاد الأمر إلى المادة والموضوع، فنحن أصلا لا نسلّم أن للفكر العربي موضوعًا يميّزه عن سواه ويجعله فكرًا موازيًا لغيره.

 

هل عدم وجود فكر عربي يستلزم عدم وجود مفكّر عربي؟

قبل الإجابة على هذا السؤال نحتاج أن نوضّح معنى “مفكّر” الذي نريد نحكم عليه. فحين نقول فلان “مفكّر” لا نعني أنَّ غيره لا يفكّر، ولكن نعني أنَّ خاصية التفكّر تتجلَّى فيه بصورة غير تقليدية. كما نقول عن شخص إنه إنسان نظرًا لكثرة أفعاله الإنسانية مع أنَّ غيره كذلك إنسان، لكن لأنَّ صفة الإنسانية تجلَّت فيه بصورة أكبر صح إطلاق الإنسانية عليه على سبيل التميّز لا على سبيل التعريف الأصلي.

ومن هذا الباب نطلق صفة “مفكّر” على المشتغل في القضايا الفكرية اشتغالا غير تقليدي. وهذا أمر فيه من العموم النسبية الشيء الكثير_ فقد يكون شخص مفكرًا عند قومٍ وجاهلاً عند آخرين_ لكنه كافٍ لمثل هذه المقالة.

إذن المفكّر هو الشخص المشتغل بقضايا الفكر، بعد توضيح ذلك نعود للسؤال: هل غياب الفكر العربي يستلزم غياب المفكّر العربي؟

الجواب: لا يوجد تلازمٌ بين الأمرين. فنحن ننفي وجود فكر عربي، لكن لا ننفي وجود مفكّر عربي؛ لأنَّ العروبة هنا صفة للمفكِّر وليس للمفكَّر فيه. ونحن لا ننفي وجود عرب يصدق عليهم أنَّهم مفكرون، لكن ننفي وجود منتجات ومناهج فكرية من نتاج عقول أولئك العرب. فالعربي مفكّر، لكنَّ عقله لا يفكّر في شيءٍ من نتاجه، وإنما من نتاج الآخرين. فغاية ما يفعله المفكّر العربي أن يقتات من موائد الحضارات الأخرى ويعيد إنتاجها بصورة عربية، أما أن يُنشئ استقلالاً فهذا لم يحصل بعدُ بحسب اطلاعي.

إذن القول بنفي الفكر العربي لا يستلزم القول بنفي وجود مفكّر عربي؛ لأنَّنا ننفي وجود المادة المفكَّر فيها ولا ننفي وجود العقل المفكِّر.