لا أحد يخفى عليه حرمة الغيبة، فهي فعل قبيح يضر أكثر مما ينفع لكن هل كل غيبة محرمة؟
وهل هناك غيبة تجوز لك ممارستها؟ بل أكثر من ذلك، هل هناك غيبة واجبة، وعليك القيام بها ؟!
إليك بعض التفصيلات..
لابد وحضرت مجلساً كانت الغيبة حاضرة بصورة وأخرى. فإن لم تكن أنت القائم بفعل الغيبة القبيح، فآخرون قاموا بذلك، وبالتالي استمع غيبتهم في فلان وعلان وفلتان وغيرهم بشكل وآخر، الأمر الذي يعني أنك شاركتهم في الإثم.. ولعل هذا هو حال معظم المجالس، بغض النظر عن عدد الحضور ونوعيتهم ومراتبهم. لكن هل يعني ذلك اعتزال المجالس؟
قد يقول قائل بأن اعتزال تلك المجالس التي تكثر فيها الغيبة، أو المتوقع أن تتحول لمجالس غيبة وبهتان، حل أمثل لمنع النفس من حمل أوزار وآثام يكون أحدنا في غنى عنها. لكن ماذا لو أن هذا الفعل القبيح ممارس في بيتك وبين عائلتك، أو في مقر عملك وبين زملاء عملك، أو مواضع أخرى ليس لك من بد سوى حضورها أو المشاركة فيها؟
هي إشكالية ولابد من علاجها. والعلاج بكل تأكيد لا يقتصر على التوعية والتذكير فحسب، بل يحتاج من المبتلى بها إلى همة وإرادة وعزيمة وإيمان. ويكفي أن تدرك بأن الغيبة تأتي ضمن أفعال اللسان التي ذكرها النبي الكريم – ﷺ – بشكل غير مباشر لمعاذ بن جبل، وهو يجيب على سؤال له عن الأعمال التي تُدخل الجنة، فذكر له أفعالاً عدة، ثم أخذ بلسانه. قال: كُفَّ عليك هذا، فقلتُ: يا نبي الله، وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم” (صحيح الترمذي).
الشاهد من الحديث أن الغيبة كالنميمة كقول الزور وكغيرها من الأفعال اللسانية المنتشرة بين الناس، والتي يتلذذ بها كثيرون في مجالسهم ومنتدياتهم، بل يجد فيها كثيرون متنفساً أو وسيلة للفضفضة، خاصة إن كان القائم بهذا الفعل ضحية للمغتاب، الذي ربما يجد في هذا الفعل نوعاً من التنفيس، حتى وإن كان على دراية بحرمة الأمر.
وقد انضمت إلى مجالس الغيبة الحضورية، منصات افتراضية متنوعة، تساعد كثيراً على انتشار نيران الغيبة وغيرها من قبائح الأفعال اللسانية.. الأمر الذي صار يدعو فعلياً إلى ضرورة التنبه للخطر الذي عليه كثيرون، والتنبيه على خطر ما يصدر عن ألسنتهم، سواء بشكل مباشر في المجالس الحضورية أو غير مباشر عبر الكتابة هنا وهناك. مع أهمية وضرورة الإكثار من حملات التوعية المجتمعية والإعلامية. فالنتائج السلبية للغيبة والنميمة كأبرز نموذجين قبيحين للأعمال اللسانية، لا تقتصر على الممارس لهما فقط، بل آخرين كُثُر، وهو ما يستدعي القيام بحملات إنقاذ عديدة مستمرة، إن صح وجاز لنا التعبير.
يكفي أن نعي معنى الغيبة كما في الحديث الشريف، لكي نضع حداً لهذا الفعل، لأن الفهم الصحيح له يكون عاملاً مساعداً في تركه، والذي نسأل الله ألا يُبتلى به أحد. جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله ﷺ، قال:” أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرُك أخاك بما يكره. قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهتّهُ”. والبهتان هو فعل أشد وأسوأ من الغيبة.. هذه نقطة أولى.
نقطة ثانية كما ورد عن الحسن البصري – رحمه الله – قال: ثلاثة لا غيبة لهم: صاحب الهوى والفاسق المُعلِن بفسقه والإمام الجائر. معنى هذا أن التحدث عن مساوئ أولئك الثلاثة ليس من فعل الغيبة بتاتاً، بسبب أنهم أظهروا أعمالهم وافتخروا بها، وبالتالي حين تتكلم عن صاحب هوى يريد أن يفسد الناس، أو فاسق لا يتردد في إظهار فسقه، أو مسؤول ظالم جائر لا يتورع عن ظلم من هم تحت مسؤوليته، فإنك بالحديث عنهم وكشف مساوئهم إنما تقوم بأمر التنبيه والتحذير لأجل الصالح العام.
أما النقطة الثالثة والأخيرة فإنها حول وجوب التحدث عن الآخرين وكشف مساوئهم، إن دعت الحاجة لأن تتحدث. فليس من الإيمان أن يستشيرك أحد في مسألة الزواج مثلاً أو المشاركة في تجارة ما، وتخفي مساوئ وعيوب أنت أدرى بها عن الشخص. وليس من الإيمان والمروءة كذلك أن تعلم مساوئ شخص وعدم كفاءته لمنصب ما، لتقول بغير ذلك حين يؤخذ رأيك فيه ومدى كفاءته لعمل أو منصب أو وظيفة ما.
وكذلك واجب عليك حين تلجأ لصاحب قدرة وسلطة، أن تذكر معايب ومساوئ شخص يقوم بالمنكرات، وذلك من أجل ردعه ووقفه عن منكراته التي يظهرها علناً. والأمثلة أكثر مما يمكن حصرها هاهنا، وإنما لك أن تستزيد في الأمر وتقرأ للإمام النووي مثلاً في رياض الصالحين، عن الغيبة التي تُباح لغرض صحيح شرعي، والذي لا يمكن الوصول إليه إلا بها..
ونكتفي بهذا القدر من التذكير والتنويه.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.