من المسائل المشهورة في كتب أصول الفقه مسألةٌ تُدعى “التصويب والتخطئة”، وهي مسألة تحيل إلى الموقف من عملية الاجتهاد من جهة، ومن اختلاف الآراء والانقسامات الكلامية والمذهبية المبكرة من جهة أخرى. وقد حَظيت هذه المسألة باهتمام كبير؛ لم يقتصر على كتب الأصول فقط، ولذلك وصفها الإمام السبكي بأنها مسألة “عظيمة الخطب”، وقال عنها الإمام أبو بكر بن العربي: “هي نازلة في الخلاف عظيمة”. فهل كل مجتهد مصيب؟
ومقالة تصويب المجتهدين تنص على أن “كل مجتهد مصيب”، وهي مقالةٌ تَرجع إلى عبيد الله بن الحسن العَنْبَرِيّ (168هـ) الذي كان يقول: “إن القرآن يدل على الاختلاف؛ فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب. ومن قال بهذا فهو مصيب ومن قال بهذا فهو مصيب؛ لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين”. وسئل العنبريُّ يومًا عن أهل القدر (أي الذين ينفون القدَر) وأهل الإجبار فقال: “كلٌّ مصيبٌ، هؤلاء قوم عَظّموا الله، وهؤلاء قومٌ نزَّهوا الله”.
فهذه المقالة تتحدث عن سؤال هل كل مجتهد مصيب؟ وعن تصويب المجتهدين مطلقًا، سواء في المسائل الاعتقادية: كالقدَر والإجبار وإطلاق الأسماء: مؤمن وكافر وفاسق ومنافق، أم في المسائل الفقهية العملية. بل إن الكلام المنسوب للعنبري يُحيل إلى معنى سائل في النص نفسه؛ لدرجة أن القرآن يحتمل كل المعاني المتناقضة في الآن نفسه، وهو ما يفرض سؤالاً عن وظيفة النص في هذه الحالة، كما يذكرنا بقول عبد الكريم سروش في كتابه “صراطات مستقيمة”: “إن النص صامتٌ ونحن مَن نستنطقه”، وهو التوجه الذي يجد تعبيره الحديث في مقولة “موت المؤلف” حيث يصبح فيه النص مِلكًا لقارئه يفهمه كيف شاء!
لم يُقرَّ العنبريَّ على مقالته أحدٌ فيما نعلم؛ إلا ما نُقل عن الجاحظ المعتزلي (255 هـ)، وإن كان في النقل عنه اختلافٌ أيضًا، فالفخر الرازيّ (606هـ) يسوّي بين قولَي العنبري والجاحظ دون تفريق، في حين أن الغزاليَّ (505هـ) نقل عن الجاحظ “أن مخالفَ مِلة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية: إن كان معانِدًا -على خلاف اعتقاده- فهو آثم، وإن نظر فعجز عن دَرْك الحق فهو معذور غير آثم …”، وفرَّق بين مقالتي الجاحظ والعنبري، ثم قال في مقالة العنبري: “فهذا المذهب شرٌّ من مذهب الجاحظ؛ فإن الجاحظ أقر بأن المصيب واحد وجعل المخطئ معذورًا”.
وقد واكبت مقالة العنبري تَبَلور علم الكلام واشتداد حدّة الاختلاف في مسائله قبل أن ينشأ التدوين في علم أصول الفقه؛ فكانت كلُّ فرقةٍ تقرّر الحقَّ فيما ذهبت إليه وتجهد في إبطال ما خالفه، ومع ذلك بقيت مقالة العنبري هامشيةً لا تَلقى تأييدًا، خصوصًا مع تَبَلور علم أصول الفقه؛ لأن أساس مقالة العنبري قائم على كون آيات القرآن تحتمل الاختلاف، وعلمُ أصول الفقه يسعى إلى ضبط قانون الاستدلال والتأويل على معنى قَويم، كما يسعى إلى تضييق الاختلاف، ومن ثمَّ ضَعُفت مقدرةُ الاحتمالات العقلية التي يَحتملها النصُ القرآني أو النبوي عن إضفاء الصواب على كل الاجتهادات، خصوصًا في ميدان العقائد التي سعى فيها الجميع إلى طلب اليقين أو القطع.
ولكن تدوين أصول الفقه والدخول في ميدان الأحكام العملية، كشف عن اختلافات عديدة؛ لأن “هذا الفقه المستنبط من الأدلّة الشّرعيّة كَثُر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم؛ خلافًا لا بدّ من وقوعه” كما يصرح ابن خلدون، وهو الأمر الذي استدعى نشوء فنَّ الخلافيات، فكان لا بد من إيضاح الموقف من هذا الاختلاف، ولذلك وجدنا أنه تم استدعاء مقالة التصويب هنا، فقد نُقل عن عثمان البَتّيّ (143هـ) أنه كان يقول بتكافؤ الأدلة؛ مما يترتب عليه القول بأن كلَّ مجتهد مصيبٌ؛ لتساوي الأدلة، وبلغنا عن أبي حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السَّمْتي: “كلُّ مجتهد مصيب، والحقُّ عند الله واحد”، ويبدو أنه موقف وسطٌ من المقالة يسعى إلى تصويب الاجتهاد كلِّه ما دام صادرًا من أهله؛ دون اللجوء إلى القول بتعدد الحقّ في ذاته، وإن تعدد بحسب المجتهدين واجتهاداتهم.
ولم يكن أصحاب الفقه والحديث – وحدَهم – مَن نصروا مقالة المُخَطِّئة؛ فقد ذهب إلى أن الحق واحدٌ: بِشْر المَرِّيْسيّ (218هـ) من شيوخ المعتزلة وكانت عقيدته الإرجاء، وعبدُ الرحمن بن كيسان الأَصَمُّ المعتزلي (218هـ) وكانت له مناظرات مع أبي الهذيل العلاف، وتلميذُه إبراهيمُ بن إسماعيل بن عُلَيَّة، وقد كانت له مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي، وعُدَّت له شذوذات في الأصول والكلام.
انتقلت مقالة تصويب المجتهدين من العنبريّ إلى معتزلة البصرة ثم أبي الحسن الأشعري ثم الأصوليين؛ ولكن مع إجراء تعديلٍ عليها، فإذا كان العنبري قد عنى بها ميدان العقائد والفقه معًا (الأصول والفروع) فإن الأخيرين قَصَروها على ساحة “الفروع” فقط.
ولذلك سيطور المتكلمون والأصوليون في القرن الخامس الهجري مفاهيم جديدة لضبط الخلاف ومستوياته وتعيين المساحة التي يُتَسامح فيها بتعدد الحق وتلك التي لا تَحتمل إلا حقًّا واحدًا. من تلك المفاهيم: “الأصول والفروع” أو “العقليات والعمليات” أو “القطعيات والظنيات”، فالأصول أو العقليات أو القطعيات هي ميدان الحق الواحد، أما مقابلاتها فهي ميدان تعدد الحق والصواب، وبهذا أمكن لهم استيعاب الاختلاف داخل الوحدة.
يرجع أصل الخلاف في مقالة التصويب إلى فكرتين أساسيتين:
المسألة الأولى: هل لله تعالى حُكمٌ في الوقائع الشرعية التي لا نص فيها أم لا؟
ذهب المصوِّبة إلى أنه ليس لله حكم مُعَيّن في الوقائع حتى يُطلَب بالاجتهاد، فالحكم يَتبع ظن (المجتهد)، وحكمُ الله على كل (مجتهد) هو ما غلب على ظنِّه، فإذا غَلَب على ظنه أمرٌ فحكمُ الله عليه هو اتباعُ غَلَبة ظنه وموجَبه، فالذي أدّاه اجتهاده إلى التحليل يَلزمه العملُ بموجب اجتهاده، والذي أفضى اجتهاده إلى التحريم يتحتم عليه الجريانُ على مقتضى اجتهاده، ووجوبُ العمل بمقتضى الاجتهادين هو من أمر الله تعالى وإيجابه، وحينئذ كلُّ مجتهد مصيبٌ؛ لِمَا غَلَب على ظنه، ومصيبٌ للخروج عن العُهدة والإثم. وبعض المُصَوِّبة قالوا: إن لله حُكمًا معيَّنًا، ولكن لم يُكَلَّف المجتهدُ إصابتَه؛ لعُسر ذلك، فيكون مصيبًا؛ بمجرد الاجتهاد القائم على شروطه، وإن لم يُصادف ذلك الحكمَ المعيَّنَ عند الله.
والمسألة الثانية: القطع والظن، والأصول والفروع، فقد رَتَّبوا على المجتهد وجوب العمل بغلبة الظن في مسائل الاجتهاد، كما قرروا أن المخطئ في القطعيات آثم، ولا إثم في الظنيات أصلاً، سواءٌ عند المصوّبة أم المخطّئة. والفرق بين المسائل القطعية والظنية يرجع إلى الدليل، فما دلّ عليه دليل قاطعٌ لا يحتمل الخلافَ أو احتمله احتمالاً ضعيفًا ليس له من القوة ما يُعَوَّل عليه لأجله: فهو قطعي، وما دلّ عليه دليلٌ ظني يَحتمل النقيضَ احتمالاً قويًّا يُعذَر فيه مَن صار إليه عقلاً وعرفًا، فهو اجتهادي.
وقد كان لهذه التفرقة أثرٌ في ضبط الخلاف؛ بحيث تمَّ نفي الاختلاف في أصول الدين القطعية وتأثيم المخطئ فيها، على حين تم ضبط الخلاف الفقهي في مسائل الفروع مما يدخل في مسائل الاجتهاد؛ بحيث أمكن الاعتراف بشرعية مختلف الاجتهادات الفقهية وفق قواعد ومحاججات كلامية وأصولية، وذلك من دون اللجوء إلى فرض اجتهاد مجتهدٍ واحدٍ وإلزام الآخرين به؛ لأنهم قرروا أن كل مجتهد ملزَمٌ بما أداه إليه اجتهاده، وهو الصواب في حقه، ولم يكن معنى تلك المقولة أن يقول كل مجتهد ما بدا له وأن أحكام الدين نابعةٌ من عقل المجتهد وذاته كما أوهم بعض المعاصرين!
استعادة هذه المقالة تساعدنا على إدراك أمور:
أولها: أنه منذ القرن الثاني الهجري كان هناك محاولات منهجية لاستيعاب الاختلافات، سواءٌ على مستوى شرعية الاجتهاد نفسه، أم على مستوى المجتهد نفسه الذي يمارس الاجتهاد، أو على مستوى التمييز بين درجات دلالة النص ومستويات الحجج والأدلة (القطعي والظني)، أو على مستوى المجال وموضوع القضية التي هي محل الاختلاف (العقليات والعمليات).
ثانيها: أن هذا التنوع والثراء في الآراء ومحاولة إضفاء شرعية عليها بمستويات مختلفة وَسم كثيرًا من كتب الكلام والفقه والتفسير، مما يُحيل إلى أن ظاهرة (حَمل) الناس على فهم واحدٍ ظاهرةٌ حديثةٌ، وهي مسألة مختلفة عن ظاهرة تخطئة اجتهاد المخالف؛ لأن التخطئة مسألة فكريةٌ يَصحبها إعذار المخالف ونفي الإثم عن اجتهاده المخالف.
ثالثها: أن نقاشات المتكلمين والفقهاء والأصوليين تُظهر وعيًا عميقًا لديهم بمسألة التمييز بين حقيقة المراد الإلهي (في ذات الأمر)، والمراد الإلهي كما يبدو لنا (في ظاهر الأمر)، ولذلك ناقشوا حقيقة الدين وما إذا كانت حقيقة مُعَيَّنة سلفاً ومستقلة عن الفهم البشري، أو ثابتة موضوعيًّا في بعض القضايا وتابعة للفهم الاجتهادي في قضايا أخرى، أي الذاتي والموضوعي في إثبات الحقيقة، وهل الحقيقة ذاتية أو موضوعية.
رابعها: أن تصويب المجتهدين يتأسس على نظر أخلاقيّ؛ وهو أن المجتهد بعد أن يستوفي المؤهلات اللازمة للاجتهاد ويستفرغ وُسعه في البحث، يجب عليه أن يتبع اعتقاده هو، وهو مصيب في اعتقاده بحسب ما أداه إليه اجتهاده؛ فإنه وإن أخطأ في الوصول إلى الحق، يكون قد أصاب في سلوك طريقه وبذل وُسْعه، والنظرية الأخلاقية القرآنية -كما أوضحها محمد عبد الله دراز– تقوم على خمسة أركان: الواجب، والمسؤولية، والجزاء، والنية، والجهد.
خامسها: أن التصويب يحفظ التنوع من جهة، وأن التخطئة تسمح بالمراجعة والنقد من جهة أخرى؛ ما دام النقاش يدور حول النشاط الفكري والاجتهادي الحر، من دون إكراه أو قَسْر لإدخال الناس في معتقد واحد هو الحقَ!