كنت أستغرب من بعض أحاديث آخر الزمان، منها هذا الحديث الذي يرويه كاتم أسرار النبي الكريم ﷺ حذيفة بن اليمان عنه ﷺ قال: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها فقال له أحد كبار التابعين ويدعى صلة العبسي: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثا. (1)
وجه الاستغراب أتى من ذلك المستوى الذي يصل إليه المسلم في وقت قادم لا ريب فيه، لا يدري عن الدين سوى لا إله إلا الله، بل ربما لا يدري إن كان هو مسلماً أو ماذا يعني أن يكون مسلماً وأمور أخرى مرتبطة بالدين. فكيف يمكن أن يصل إنسان إلى هذا المستوى من العلم، وخاصة أننا نشهد طفرة علمية معرفية وتقنية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، ومرشحة لأن تتطور سريعاً في قادم العقود والقرون، وبشكل لا يعلم مداها إلا الله.
اليوم مثلاً، ومن بعد ثورتي التقنيات والمعلومات اللتان بدأتا منذ عشرين عاماً، صار أمر التعليم والتعلم أكثر يسراً وسهولة، والبحث عن المعلومة لا تأخذ منك ذاك الجهد الذي كان قبل ثلاثة أو أربعة عقود مثلاً. وبمقارنة سريعة بين ما كنا عليه وما نحن الآن، سنجد الفروقات شاسعة مذهلة.
حالياً، ولا أدري عن المستقبل، لا يستغرق البحث عن أي معلومة تريدها عبر محركات البحث المعروفة سوى ثوان معدودة، لتجد آلاف الخيارات من مصادر متنوعة حول النقطة التي تبحث عنها، وما عليك بعد ذلك إلا انتقاء ما تبحث عنه والتثبت من دقة المصادر بطرق ووسائل صارت متوفرة أيضاً.
ماذا يعني كل هذا التطور؟
بشيء من التأمل والتفكير فيما يحدث الآن من تطور علمي هائل، ستجد أنه دليل على انتشار العلم وسهولة الحصول عليه بأقل المجهودات وأسرع الأوقات، فنحن ما زلنا في بدايات تمكن الإنسان من التقنيات وأدوات البحث والنشر، ولا ندري كيف هو الوضع بعد عقدين من الآن، ولا أقول أكثر من ذلك، أو لا أريد أن استشرف مستقبل البشرية أبعد من هذا، لأن التطور العلمي البشري أمسى سريعاً جداً، فما نعتبره مذهلاً اليوم، قد يكون بدائياً بعد سنوات قليلات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
ماذا أريد أن أصل إليه اليوم؟
عودة على بدء، وبشيء من التأمل مرة أخرى في حديث حذيفة من أن الإسلام سوف يدرسُ كما يدرسُ وشْيُ الثوب، أي تنمحي آثاره وتعاليمه كما تنمحي نقوش الثوب مع الزمن وتختفي، فإنه يمكن القول بأن الحديث، كفرضية أولى، ربما يشير إلى ما سيكون عليه البشر – ومنهم المسلمون – في آخر الزمان، حيث لا حضارة ولا علم ولا عمران. أو ربما عكس ذلك تماماً، كفرضية ثانية.
إن أخذنا بالفرضية الأولى، سنلاحظ أن ما نعيشه الآن من تطور علمي معرفي وتقني هائل غير مسبوق، ربما يختفي بقدرة قادر أو سبب من الأسباب، بحيث يدخل الناس في فترة زمنية ينتشر الجهل وتعود الأمية من جديد، من بعد أن تكون العلوم والمعارف قد اختفت تدريجياً من الصدور والعقول، بعد اختفائها من مواقع التخزين الإلكترونية وأجهزة الحاسوب المختلفة والذكاء الاصطناعي وغيرها مما نعرفها الآن، أو أخرى قد تظهر وتكون فائقة القدرات والإمكانات أيضاً. وبالتالي سيكون منطقياً حدوث ذاك الجهل عند المسلم وغير المسلم، ويكون فهم الحديث النبوي الشريف يسيراً دون كثير صعوبات.
لكن ماذا لو أن النبي الكريم – ﷺ – يتحدث فعلاً عن زمن مثل الذي نعيشه، كفرضية ثانية، على رغم أننا اليوم مثلاً وبفضل الله ثم التقنيات المعلوماتية والتواصلية، صار جل العالم يعرف عن الإسلام والمسلمين أكثر مما مضى، وصار أمر البحث أو الوصول إلى معرفته غاية في السهولة، يستطيع من أراد ذلك أن يحصل على مبتغاه في أي زمان وأي مكان؟ فكم اهتدى الآلاف إلى هذا الدين بفضل التقدم العلمي والمعرفي الذي نعيشه الآن، ثم صارت تتعلم وتتفقه ذاتياً في الدين عبر هذه الوسائل، دون حاجة للتواصل البشري مع أساتذة وعلماء وفقهاء وغيرهم ممن لهم علم ودراية بالدين وتفاصيله. أيُعقل بعد كل هذا وفي ظل هذا التقدم المعرفي المذهل أن يجهل المسلم أبسط أساسيات دينه؟
لو تتأمل معي وتمعن النظر في تلك الجهود الجبارة، التي تُبذل هنا وهناك لسلخ الناس عن دينها وعقيدتها وثقافتها في مواقع جغرافية شتى، لاسيما العربية منها، وإغراقهم بشتى الملذات والملهيات أو المنغصات والمشكلات، حتى رأينا فعلياً مسلمين لا يدري أحدهم عن دينه سوى لا إله إلا الله في مثل هذا الوقت من التقدم العلمي والمعرفي والتقني البشري الهائل والمذهل، لوجدت أن من كنا نعتقدهم المقصودين في أحاديث آخر الزمان، والذين سيأتون بعد قرون عدة أو آلاف السنين من الآن، ما هم سوى مسلمي اليوم !
ماذا يعني هذا؟
الأمر وحتى لا يلتبس عليك كثيراً، واضحٌ يسير.
أحاديث آخر الزمان لم تحدد زمناً معيناً وكيف شكل ذاك الزمن ومن يعيش أثنائه. ففي التصور الأولي لأحاديث آخر الزمان، سيتراءى لمعظمنا أنها تتحدث عن عالم متخلف أشبه بكائنات العصر الحجري، أو سكان الغابات والجبال وما شابههم. حيث لا علم حينذاك ولا حضارة ولا شيء مما نحن عليه اليوم. وهذا في نظري تصور غير صحيح، ولا يمكن القبول به، بدليل مثال المسلم الذي لا يعرف سوى لا إله إلا الله، الذي ذكرناه آنفا. فكيف تصف مسلماً يعيش عصر العلم والمعرفة والتقنية، ولا يدري عن دينه سوى بضع كلمات ربما سمعها من أهله أو محيطه؟ هذا المسلم الذي ربما لو تُرك دون رعاية وهداية، لن يكون بمقدور أحدنا بعد حين من الدهر قصير، التفريق بينه وبين غير المسلم على سبيل المثال.
أليست مثل هذه النوعية هي التي تحدث عنها رسولنا الكريم – ﷺ – في الحديث؟
الجواب دون كثير عناء: لم لا ؟ بل لم لا نتأمل الأمر ونعيد التفكير من جديد؟ ولم لا نكون نحن فعلاً المقصودين في بعض أحاديث آخر الزمان؟ لا شيء يمنع من ذلك، وشواهد هذا العصر المؤكدة على ذلك، أكثر مما يمكن أن نحصرها.
موضوعنا هذا ليس ترفاً فكرياً فلسفيا، بل هو تنبيه لخطر واقع بدأت آثاره بالظهور، والمحتمل أن تتعمق سلبياته أكثر فأكثر ما لم نتداركه. نحن في خطر اتساع دائرة الجهل بالدين، رغم التقدم العلمي والمعرفي والتقني الهائل، بعد انتشار وتراكم الأفكار الفاسدة والفلسفات والملهيات عن أيماننا وشمائلنا وفوقنا وتحتنا وكل اتجاهات أرضنا، والتي من المفترض أن تزيد مستخدميها علماً ونوراً وفهما، لكن الواقع يقول بغير هذا !
أسأل الله في الختام، السلامة والإسلام، والتوفيق لما يحبه ويرضاه رب الأنام، والوقاية من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
(1) حديث صحيح رواه ابن ماجه