ألم تلاحظ في بعض المواقف الحياتية الماضية من قال لك في موقف محزن أو مؤلم: لا حل لموضوعك سوى أن ترضى بالواقع، ولا أحد سيقف معك لأن هذا الواقع أقوى منك، ولا بد أن ترضخ لهذا الواقع! إن عاد بك الزمن مرة أخرى لذاك الموقف فهل سترضى بواقعك حينذاك، أم سيكون لك رأي آخر؟

 هناك مدرسة تنادي اليوم بقبول الواقع بخيره وشره، والمدرسة هذه قوية التأثير في عالم السياسة تحديداً، ولن نتطرق إليها كثيراً، فهذا عالم له قوانينه وسياساته، لكن الأهم في رأيي على أقل تقدير – وقد يخالفني أو يوافقني البعض – هو عالم الحياة، أو حياتنا التي نعيشها.

 هذه الحياة هي التي تهمنا لأنها الأساس لبقية العوالم الأخرى، سياسية كانت أم اقتصادية أم تربوية أم اجتماعية أم غيرها.. ولهذا ليس قبول الواقع في حياتنا هو الحل الأمثل لكثير من الأمور.. نعم ربما هذا الواقع يكون مفيداً والقبول به إيجابياً في بعض الأحيان، ولكن في أحايين كثيرة ليس شرطاً أن يكون كذلك. الأمر نسبي ويعتمد على الظروف المكانية والزمانية إضافة إلى ظروف كل شخص المتنوعة والمتعددة.

 رسولنا الكريم ، وهو قدوتنا الحسنة، لم يؤمن بالنظرية الواقعية قيد أنملة، ولم يعترف بها رغم كل ما كان عليه وأصحابه من ظروف تستدعي الإيمان بهذه النظرية. وهناك أمثلة على ذلك متعددة..

ليس قبول الواقع في حياتنا هو الحل الأمثل لكثير من الأمور.. نعم ربما هذا الواقع يكون مفيداً والقبول به إيجابياً في بعض الأحيان، ولكن في أحايين كثيرة ليس شرطاً أن يكون كذلك

دعوني أسألكم هذا السؤال:

 هل كان الرسول الحبيب واقعياً يوم أن قدّم وعداً لسراقة بن مالك أثناء هجرته من مكة إلى المدينة بأن يعطيه سواري كسرى، أعظم ملوك الدنيا في ذاك الوقت، إن هو تخلى عن مطاردته وصاحبه الكريم أبي بكر الصديق؟ مَن يؤمن بنظرية قبول الأمر الواقع سيقول بالطبع لا، لم يكن الرسول الكريم أبداً واقعياً في ذلكم الموقف مع سراقة..

 هل كان واقعياً وهو يحفر مع أصحابه خندقاً يحمون به المدينة والمسلمين والإسلام من هجمة وثنية يهودية حاقدة حاشدة يوم الأحزاب، وهو يعدهم أثناء الحفر، بفتح بلاد فارس والروم، في وقت لم يكن يأمن أحد من الصحابة أن يتحرك من مكانه لقضاء حاجته من شدة وهول الموقف، فكيف يتحدث إلى أصحابه ويعدهم بأمور، هي أقرب ما تكون ساعتها، من المستحيلات وخوارق الأمور؟ بالطبع سيقول صاحب النظرية الواقعية، إن ذاك كان بعيداً عن الواقعية تماماً.. وأمثلة أخرى كثيرة لا يتسع المجال لسردها..

من كان يومذاك معه ، وأراد على سبيل المثال أن يكون واقعياً ويقبل بنظرية قبول الواقع ولو إلى حين، لم يكن ليصدق الرسول من أول كلماته وهو يعد ويعد ويعد.. لماذا؟ لأن الواقع كان أمراً مختلفاً وبعيداً عن أي حسابات دنيوية عقلية منطقية، لكنه كان هو وأصحابه بعيدين كل البعد عن الواقعية أو مدرسة القبول بالأمر الواقع.

 ولأنهم كانوا كذلك، استطاعوا في أقل من ثلاثة عقود رسم الواقع الذي أرادوه هم وليس غيرهم.. كانت الرؤية واضحة وضوح الشمس لحضرة الرسول الكريم وصحبه الكرام. كانت رؤيتهم ترتكز على نشر الدين والخير ليس بالجزيرة فحسب، بل العالم كله، وهذا أمر لم يكن ليستوعبه إلا صاحب يقين وإيمان لا يهتزان.. وهكذا كانت مدرسته ، فليس دائماً قبول الأمر الواقع هو النموذج الأمثل للحياة أو مسايرة الحياة، بل إن مخالفة الواقع أحياناً هي الحل أو هي الطريقة الوحيدة للعيش بكرامة وعزة كما أرادها الله سبحانه لعباده أن يعيشوا، وبها تتغير الوقائع على أرض الواقع وشواهد ذلك في الحاضر أكثر من أن نحصيها في هذه المساحة المحدودة.. إنها دعوة للتأمل في واقعنا المعاش، وهل نرضى به ونستكين، أم تتسع وتتطور رؤانا لكي نرى الواقع المأمول والمرغوب، طال العهد أم قصر؟