قال الله تقدست أسماؤه :{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 66].

معنى الآية على ما ذكر المفسرون والفقهاء، أن الجنود المسلمين قادرون على الظفر بضعف عددهم من المشركين، وأنه لا يجوز للجنود المسلمين في المعركة أن يفروا إلا إذا زاد عدد المشركين عن ضعف عدد الجنود المسلمين، فإذا لم يزيدوا عن الضعف، وجب على المسلمين الثبات في المعركة، وكان فرارهم  معصية موبقة؛ ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات”([1]).

مرَّ هذا التفسير بسلام عبر قرون متطاولة إلى أن عرفت البشرية اختراع البارود، فأصبحت موازين القوة القتالية بالعتاد لا بالعدد، وأصبح بإمكان فرد واحد مسلح بالرصاص أن يحصد رءوس المئات المسلحة بالسيوف والرماح، فكيف بالدبابات والطائرات والصواريخ والقنابل الجرثومية والنووية وغير ذلك من العتاد الحربي الحديث!

عندئذ بدأ العلماء يتساءلون([2]) : هل العبرة بالعدد ؟ أم بالقوة ؟ أي هل لا يزال التفسير القديم ساري المفعول : أنه لا يجوز للمسلمين أن يفروا من ضعف عددهم بغض النظر عن العتاد والسلاح؟ أم هل ننتقل إلى الضِّعف في القوة، فيكون تفسير الآية : أنه لا يجوز للمسلمين أن يفروا من ضعف القوة المقابلة لهم، سواء أكانت قوة عددية، أو قوة عتادية؟ فيكون الاعتبار بمجموع القوة العسكرية من عدد وعتاد، ولا يكون العدد وحده هو المقياس؟

لم تكن مفاجأة أن يجنح الفقهاء المعاصرون إلى هذا التفسير الأخير.([3])

وهنا يبرز السؤال : أليس هذا تلاعبا بالقرآن؟

إن القرآن ذكر العدد وحده  معيارا  للقوة،{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ } [الأنفال: 66].

وهنا يقول الحداثيون ومن معهم : إما أن تأخذوا بمعيار القرآن ، ولا تغيروه مهما تغيرت الظروف حتى يسلم لكم زعمكم أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وإما أن تراعوا تغير الظروف، لكن حينئذ يجب عليكم أن تسلموا لنا بتاريخانية النص القرآني!

أما أن تأتوا إلى بعض النصوص القرآنية فتقيدوا معانيها بفترة تاريخية محددة، ثم ترفضوا الأمر نفسه في آيات أخرى، فهذا تلاعب منكم بالقرآن، فما شئتموه تاريخانيا جعلتموه كذلك، وما شئتموه عابرا للزمان والمكان جعلتموه كذلك، كل ذلك حسب اختياراتكم أنتم دون قاعدة مطردة يُحتكم إليها، فهل التلاعب إلا ذلك؟

الرازي وفكرة التلاعب بالقرآن

والحق أن علماء المسلمين تخوفوا من هذه التهمة منذ وقت مبكر، فأوصدوا أبوابها؛ ليبقى النص القرآن بعيدا عن ريبة التلاعب به.

فهذا هو الرازي، في تفسير قوله تعالى : {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]

يذكر الرأي المشهور في تفسير هذه الآية بأن المعنى : ما لكم لا تخافون لله عظمة، أي ما لكم لا تعطمون الله!

ثم يعترض عليه اعتراضا شديدًا، ويصفه بأنه تفسير غير جائز، فيقول : وهذا القول عندي غير جائز؛ لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة، فلو قلنا: إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف؛ لكان ذلك ترجيحا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر، وهذا يفضي إلى القدح في القرآن، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتا وإثباته نفيا بهذا الطريق؟([4]).

ومعنى كلامه أن مقتضى هذا القول أن نفسر لفظ : ” ترجون” ب ” تخافون” والرجاء عكس الخوف، صحيح أن اللغة تتسع لذلك، على قول الهذلي : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . أي لم يخف لسعها، لكن هذه لغة لا تثبت ثبوت تفسير الرجاء بالأمل، وإذا قبلنا كل لغة رديئة أمكننا أن نفسر الكلمة بالمعنى وضده في كثير من كلمات القرآن!

وهي لفتة مضيئة استشرافية، لعل الله قذفها إلى قلبه وعقله؛ لتبقى دليلا على أن علماءنا كانوا يرفضون التلاعب بالقرآن!

فإذا عدنا إلى تفسير قوله تعالى : { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ …. [الأنفال: 66]. أمكننا القول بأن اختيار مجموع القوة من عدد وعتاد هو المعيار الصحيح للثبات والفرار في أرض المعركة، واختيار هذا القول ليس تلاعبا بالقرآن، وليس إذكاء لمنزع تاريخانية القرآن.

 

وبيان ذلك : أن هذه الآية حينما تنزلت، كانت القوة العسكرية متكافئة أو متقاربة بين كل جيشين يتحاربان، فأدوات القتال لا تعدو : السيف والرمح والسهم والحربة والخيل، فمع ثبات هذه العوامل، لا يكون ثمة إلا متغير واحد، وهو العدد، فمن المنطقي أن يعتبر القرآن إذن العدد هو المعيار وحده.

أما وقد تغيرت هذه العوامل، وأصبح هناك تفاوت هائل بين القوى العسكرية، فينبغي ألا يكون العدد هو المعيار، بل تكون مجموع القوة هي المعيار أيا كانت مكوناتها.

وليس هذا تجاوزا للنص القرآني، بل هو إعمال للنص القرآني مع مراعاة شروطه، وكأن القرآن اشترط لمعيارية العدد ثبات العوامل الأخرى على نحو ثبوتها يوم تنزلت آياته.

 

فكأن النص يقول : المعيار هو العدد في حالة ما لو كان الوضع هكذا : تكافؤ القوى أو تقاربها. فتكرر الظرف التاريخي شرط لثبات معيارية العدد، وهذا الشرط مشروط وإن لم ينص عليه لفظا؛ لأنه كان جزءا من المشهد الذي تنزل فيه الحكم.

 

المسح على الجوربين نموذجا

ولتقريب هذا المعنى، يمكننا ضرب مثال بالمسح على الجوارب في الوضوء بدلا من غسل الرجلين، فعن المغيرة بن شعبة قال: “توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين. ([5])

 

بعض العلماء يشترط في المسح على الجوربين أن يكونا من جلد لا من قماش، فإذا كانا من قماش، فلا بد أن يكونا من قماش ثخين لا شفاف، وبعض العلماء لا يشترطون ذلك مجوزين المسح على كل ما يسمى في العرف واللغة جوربا.

طالب المجوزن المانعين بدليل على ما اشترطوه.

 

فأجابوا : ليس عندنا دليل منطوق، لكن دليلنا أن الجوربين اللذين مسح عليهما النبي صلى الله عليه وسلم كان على الوجه الذي اشترطنا، فتكون صفات الجوارب في عهده صلى الله عليه وسلم مشروطة وإن لم يأت بها نص منطوق.

 


([1]) متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1/ 17)

([2]) وإن كان هذا لا ينفي بحث المسألة افتراضيا من قبل ووقوع خلاف حولها كما ذكر النووي والقرطبي.

([3]) انظر مثلا : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد خير هيكل، ص 1187.  والجهاد للقرضاوي، (1/669).

([4])تفسير الرازي (30/ 653)

([5])رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني. مشكاة المصابيح (1/ 162)