يقولون إنه في كل أسبوعين يشهد عالمنا انقراض لغة في أحد أركان هذه البسيطة، بغض النظر عن حالة الحزن والرثاء التي يثيرها فينا هذا الخبر إلا أنه يدلنا على ضخامة عدد اللغات التي تتكلمها البشرية، والتي تكلمتها منذ وجودها على كوكب الأرض، وإذا كانت اللغات تموت بهذه الوتيرة المزعجة فإننا نشهد بشكل يومي ميلاد ألفاظ وكلمات وتعابير جديدة.
ديفيد كريستال واحد من المتخصصين اللغويين البارزين في العالم، هو أستاذ فخري في جامعة بانجور في ويلز، وقد نشر العديد من الكتب عن اللغة الإنجليزية، وعن اللغويات وساهم في كتابة العديد من الموسوعات العامة والكتب المنهجية الخاصة باللغة، والتي تدرس بالمدارس، مهتم بحياة اللغة وحركتها في المجتمع، يبحث في أصولها ويتابع التطورات التي تطرأ عليها، أصدر كتابا في 2018 بعنوان مختصر تاريخ اللغة، ترجمه أحمد الزبيدي إلى اللغة العربية ضمن سلسلة تصدرها جامعة ييل بالولايات المتحدة الأمريكية عن تاريخ العلوم.
من مزايا اللغة كونها هي المعبر الأساسي عن هويتنا، كريستال يقرر هذه المسألة المعروفة بأسلوبه السهل الممتنع، يقول إن اللغة هو الشيء الذي نظل متلبسين به معبرا عن انتماءاتنا في كل الظروف، غير ذلك من ميزات يمكن التخلي عنها أو عجزها عن التعبير في مناسبات كثيرة، تخيل أنك تلبس زي بلدك، ولكن هل هذا الزي سيظل مرئيا للآخر إذا كنت في الظلام أو خلعته لتسبح مثلا.
يبدأ كريستال كتابه متدرجا من لغة الأطفال إلى اللغة المعقدة للرسائل النصية عبر الانترنت، وفي أثناء ذلك يأخذنا في رحلة شيقة داخل بينة اللغة وفوق جسدها ليكشف عن عدد لا يحصى من تعقيدات وعجائب اللغات، ويجوب بنا أرجاء العالم كله من خلال التمثيل بلغاته الكثيرة، مستخدما أسلوبا طريفا للغاية ولغة بسيطة ومتدفقة ودقيقة جدا، لغة -كما تقول صحيفة التايمز- غير وجلة ولا تغرق في التفاصيل.
تعرض كريستال في كتابه لقضايا هامة جدا في دراسات اللغة مثل أصول اللهجات الغامضة وأولى الكلمات التي المكتوبة، وذلك في خضم نقاشه لمحنة اللغات المهددة بالانقراض، بالإضافة إلى إشارته للأمثلة الناجحة لإحياء بعض اللغات، ويكشف كتابه من خلال الرسوم التوضيحية والاختبارات البسيطة إضافة إلى أسلوبه المشوق عن القصة الكاملة لنشوء وتطور اللغة بكل يجعلها حكاية تأسر قلب القارئ.
تبدأ لغة الأطفال في نظر كريستال بطريقة تدفقية عشوائية تفتقد أهم ميزتين للغة وهما: الإيقاع والتنغيم، ولا ترتقي لغة الطفل إلى اللغة الحقيقية حتى يحقق هاتين الميزتين، وهما أول ما يتعلمه الأطفال من لغة أمهم، وحتى لو لم تكن الكلمات مفهومة بعد، وذلك في الشهور الستة الأولى مثلا، إلا أنه يمكننا -حسب كريستال- أن نميز بين اللغة الصينية والإنجليزية والفرنسية في لغة الطفل في هذه المرحلة من خلال: الإيقاع والتنغيم، حيث يختلف إيقاع كل واحدة من هذه اللغات عن الأخرى.
كما نبه إلى قضية أخرى مهمة في اللغة، وهي أننا نسمع قبل أن نتكلم، ويقترح كريستال تجربة للتأكد من ذلك، يقول: “عندما يولد الطفل يمكننا القيام بتجربة مثيرة، يضع الباحثون سماعات على الأذنين الصغيرتين، ويقومون بغسماعه بعض الأصوات، مثل صوت كلب ينبح، صوت رجل، صوت امرأة، صوت الأم، ويضعوا حلمة في فم الطفل ويربطوها بسلك إلى المنضدة، عندما يسمع الطفل صوت الكلب، الرجل، المرأة يقوم بمص الحلمة بمعدل ثابت، ويسرع قليلا في عملية المص ثم يبطئ، ولكن عندما يسمع صوت الأم فإنه يمصها كالمجنون، لأنه تعرف عليها”.
وفي مبحث لغوي مكين يطرح كريستال قضية صعوبة الإحاطة بأصول الكلمات، ومن ثم أصل اللغة ذاتها، ذلك أن بعض الكلمات التي نستخدمها اليوم بدلالة معينة ربما ليست له أي علاقة نسقية يمكن إرجاع أصله إليها، ويضرب لذلك مثالا بكلمة (groom) العريس في اللغة الإنجليزية، كما في (bridegroom) العرس، لماذا يدعى العريس groom؟ هي في الأصل تعني رعاية وتنظيف الخيول.
من أين جاءت هذه الكلمة، يقول كريستال: “عندما تم استخدام هذه الكلمة لأول مرة باللغة الإنجليزية كانت مختلفة في الواقع، كانت (bridgome)، متألفة من كلمتين (bride) ويعني العروس و(gome) ويعني الرجل، لكن كلمة (gome) اختفت من اللغة بحلول القرن السادس عشر، ولما لم يكن أحد يعرف معناها استبدلوها بكلمة أكثر شيوعا ولها نفس نبرة الصوت (groom).
تطرح سيرة هذه الكلمة أكثر من سؤال، يجمع تلك الأسئلة السؤال عن أصول اللغات التي نتكلمها، هي قضية كما ذهب أكثر الدارسين لا يمكن الوصول فيها إلى يقين، إنها أشبه بالقضية الميتافيزيقية، رائد اللسانيات المعاصرة فريناند دي سوسير كان يرى ذلك منذ قرنين، وقد أدى رأيه هذا إلى اتخاذ جمعية اللغويين الفرنسيين قرارا بمنع المحاضرات التي تناقش أصل اللغة، هذا سيعيدنا إلى السؤال الأول وهو، هل اللغة إلهام من الله أم تواضع من البشر؟
كتاب مختصر تاريخ اللغة يجمع بين الطرافة والعمق، وهو كتاب يطلب منك قراءته أكثر من مرة حتى تستطيع كشف مخبآته التي يرمي إليها كاتبه، حين تتصفحه عابرا يخيل إليك أنه كتاب موجه للأطفال، وهذا ما قاله صاحب المقدمة، لكن حين تقرأ ما وراء اللغة السهلة والأمثلة القريبة المنال تجده كتابا باذخ المكانة في علم اللغويات.