لو عاد أحدنا بذاكرته إلى أيام مراهقته، فسيجد أن ثمة أبطالاً خارقين في وجدانه، كان يحبهم من أعماقه، ويتمنى لو كان مثلهم، وربما خطا خطوات عملية ليكوّن نسخته الحاصة من بطله الخارق.. قد يكون ذلك باتخاذ مظهره، أو تقليد حركاته، أو السير على خطاه حقاً.
وتأثر المراهقين بالأبطال ليس بدعةً مستحدثة في أيامنا، بل هي شيء عابر للزمان، وصاحبنا هنري دوفرييه مثال على هذا، إذ عاش حياته كلها في القرن التاسع عشر الميلادي، وهي حياةٌ تستحق التنويه ما دمنا في معرض الحديث عن “أبطال المراهقة” الذين يسهمون في صنع حياة الشباب وتشكيل أحلامهم ومستقبلهم.
كان هنري صبياً قد ناهز البلوغ أو بلغ للتو، وكان يدرس في مدرسة تجارية بمدينة ليبستك الألمانية، حين تردد في الناس بأرجاء أوروبا أن رجلاً ألمانياً يدعى هينرش بارت قد وصل ألمانيا عائداً من رحلة عجيبة في إفريقيا، شاهد فيها ما لم يره أوروبي ولا في المنام، واشتهرت قصص بارت، وتناقلتها الألسنة، وسمع بها الصبي هنري فهزته هزاتٍ كادت تفقده صوابه، وأخذ يتخيل نفسه مكان ذلك الرحالة الألماني، يتجول في مجاهل تلك القارة، يتعرف إلى أهلها، يتناول طعامها، يشرب من آبارها، يتعرض للفح شمسها، ويبيت في عرائها.. خاض هنري تجربة الترحال إلى إفريقيا ذهنياً كما فعل ذلك أينشتاين من بعد حين سافر إلى الفضاء البعيد بذهنه.. ووجد الفتى هنري نفسه مجذوباً إلى إفريقيا، مجنوناً بها ولما يرها بعد.
ونجم عن ذلك الجنون قرار، اتخذه هنري، ووضعه موضع التنفيذ على الفور، كان قراره هو أن يكون نسخة فرنسيةً من هنريش بارت، وأن يتبع سنته حذو القذة بالقذة، فإن كان بارت قد تعلم العربية، فسيتعلمها هنري، وإن كان قد رحل إلى إفريقية، فسيرحل مثله هنري، وهذا ما كان، وعلى الفور!
فقد حوّل مسار تعليمه إلى اللغة العربية، ويبدو أن حظه من الذكاء والاجتهاد كان عالياً، إذ نال ما أراد من تعلم اللغة في ظرف زمني قصير بعض الشيء.
كان هنري في السابعة عشرة من عمره حين قرر أن يصبح أهلاً لأن ينظر إليه بطله بارت نظرةً ملأى بالاحترام والتقدير، وقد قرر أن ذلك لا يمكن أن يتم له إلا بسيرة ذاتية تجعله جديراً بأن يعبأ به ذلك الرحالة الكبير.. فأعد الزاد والراحلة، وانطلق نحو الجزائر.. مشحوناً بالشغف، وممتلئاً رغبةً وتلهفاً، إنه الرحالة الصغير، الفتى اللبيب الذي سيكتب اسمه في مصاف عظماء الرحالين، وسيكون له شأنه في قادم الأيام وفي عيون الأجيال القادمة..
أخذت تلك الصور الوردية للمستقبل الزاهر تملأ خيال الفتى، وتمنحه طاقةً لا حدود لها، وهو يقطع الطريق من ألمانيا إلى شط البحر الجنوبي قبل أن يبحر إلى قارة أحلامه.. استمتع هنري بأمواج البحر، وشده لامتداد الصحراء الصفراء التي تبدو شيئاً لا نهائياً، وواجه متاعب الرحلة ومشاق الترحال بعزيمة فتيةٍ.. شاهد الجزائر، وأبحر في الصحراء حتى بلغ “أغوات” في جنوب الجزائر، والتقى بالقبائل المختلفة، وأخذ يحادث الناس، ويدون الملاحظات عن لهجاتهم المختلفة، ثم صاغ تلك الملاحظات في بحث سيقوم بتسليمه إلى جمعية المستشرقين في برلين حين يعود.
الآن صار هنري في نظر نفسه أهلاً للاتصال المباشر ببطله العظيم هنريش بارت، فقد وضع في سيرته الذاتية لغة أجنبية واحدة، ورحلةً واحدة، وبحثاً واحداً عن لهجات القبائل في صحراء الجزائر.
كان بارت وقتها في لندن، فذهب إليه الفتى هنري، وتلقاه الرحالة الكبير بالحفاوة والتقدير، وأولاه اهتمامه وعنايته، وأسدى إليه الكثير من النصائح والتوجيهات قبل أن يشرع الفتى في رحلته الثانية، بل زاده عنايةً فزوده برسائل إلى أصدقائه القاطنين في تلك الفيافي كي يحموه حين يحتاج الحماية.
وهنا تنتهي مرحلة هنري، الرحالة البريء، وتبدأ مرحلة هنري، الرحالة الجاسوس.
فقد كانن لدى نابليون الثالث أطماعه في فرنسا، وكان من اللازم له أن يبعث جاسوساً في هيئة رحالة، يبحث عن الخواطر الرخوة لتلك الحواضر، كيما تعرف الجيوش الغازية للجزائر من أين تؤكل الكتف.. ذهب هنري مزوداً بأموال كثيرة، وصلاحيات لاتخاذ اللازم من أجل كسب طابور خامس في صحراء الجزائر، يكون ظهيراً للغزو الفرنسي الوشيك.
وفعل هنري ما ذهب من أجله، تعلم لغة الطوارق، وعاش بينهم، وتنقل بين قراهم وبلداتهم، وعرف مساربهم ومداخلهم ومخارجهم، وعاش بينهم حولاً كاملاً، كتب أثناءه عنهم تقريراً مفصلاً دقيقاً..
ثم سافر إلى الجزائر العاصمة، ومنها إلى باريس، على أمل أن يتزود منها بتكليف جديد ومزيد من المال، لكنه فوجئ بأن ذلك لم يحصل..
هناك توقفت حياة هنري، وإن مرت السنة وراء السنة، وهو ينتظر بارقة أمل تعيده إلى صحراء إفريقيا ثانيةً، لكن الحال لم يكن مواتياً، فقد تغافلت عنه حكومة نابليون الثالث، ثم ذهبت أيام نابليون إلى غير رجعة، وجاء إلى مركز القرار حكمٌ جديد، له رجالاته الجدد، وأطماعه الجديدة، وخططه الجديدة، وكان من الجلي أن هنري يقع خارج ذلك السياق تماماً.
وكما صنعت أحلام المراهقة بدايته المشرقة، فقد صنعت خيبة تلك الأحلام نهايته المحرقة، إذ عاش هنري ثلاثين عاماً في هم وكدر، يؤمل أن ينال مجداً جديداً برحلة جديدة إلى الصحراء، ويصدم بخيبة أمل تعاوده كل حين، ولم يجد لنفسه مخرجاً من أزمته تلك إلا بإطلاق النار على نفسه، ليموت في العام ١٨٩٢ يردد بلسان حاله ما قاله الشاعر الأول:
ولم يتفق حتى مضى لسبيله ** وكم حسرات في بطون المقابر!