قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة : 183 – 184
كان من منّة الله تعالى على هذه الأمة أن شرع لها من الدين ما يصلح أمر دنياها وآخرتها ، وكان من أهم ما شرعه صوم شهر رمضان المبارك .
والعبادات في الإسلام تكاليف ابتلاء ، ومقياس يكشف عن مدى تمكن الإيمان وألقه في نفس المسلم ، وهي في الوقت ذاته وسائل لتمكين ذلك الإيمان ، إنها له بمثابة الماء للشجر والنبات .
وآيات الصيام لم تعدد لنا أنواع الخيرات التي سنحصل عليها من وراء هذه العبادة ؛ ليظل عطاء هذه العبادة مفتوحاً متنوعاً تظهره التجربة التاريخية الاجتماعية ، والواقع المعاش ، ونستطيع الآن من خلالهما أن نتلمس وجوهاً من ذلك الخير في المفردات التالية :
1- إن الصيام وسيلة فعالة لتربية الإرادة الحرة :
حيث لا توجد عبادة من العبادات تكف المسلم عن شهواته وملذاته مدة متصلة من الزمان كهذه العبادة ، فهي تدريب لإرادة المسلم على مقاومة الأهواء والملذات ومغريات الحياة . والمتأمل فيما يتفاوت فيه الناس في هذا الوجود يجد أن محور التفاوت هو الإرادة لا القدرة ، فالقدرات الفطرية لدى الناس متقاربة لكن تفاوتهم الأساس يكون في مدى صلابة الإرادة التي تُسخّر القدرة وتوجهها والتي تعين على ضبط الوقت ، وتكبح جماح الهوى والركون إلى الدعة وسفاسف الأمور ، ومن هنا فإن الصيام جاء لينمي تلك الإرادة وليُعَودْها التوجه إلى الخير ومقاومة نزوات النفس ؛ ولذا فإن تفريط المسلم في أداء هذه الشعيرة صار لدى العامة من المسلمين مؤشراً إلى نقص في رجولته ، وهذا هو تفسير قيام كثير من المسلمين بالصيام مع تفريطهم في الصلاة ، مع أن أهميتها في الإسلام أعظم ! ويذكر لنا ابن الجوزي (ت 597 هـ) أن هناك صنفاً من الناس لو ضرب بالسياط على أن يفطر رمضان ما أفطره ، ولو ضرب على أن يصلي ما صلى ! وما ذلك إلا لأن الناس عدوا الإفطار نقصاً في الرجولة ، ولم يعدوا الصلاة كذلك ، وقوله سبحانه : ] وأن تصوموا خير لكم [ في أعقاب ذكر الرخصة للمريض والمسافر بالفطر إيماءة للمسلم بأنه من الأفضل له أن يصوم مع المرض المحتمل والسفر غير الشاق ، ليكون في تحقيق إرادته نوع من المكابدة والمعاناة في سبيل الله عز وجل ، وحتى لا يصير بعض الناس إلى إيجاد الرخص والتذرع بها للفرار من الواجبات .
2- الصيام عبادة سلبية ، كيف ؟
فهو امتناع عن أنواع المفطرات ، ومن ثم فإنه بعيد عن الرياء ، وخرق تلك العبادة أمر ميسور في السر لمن أراد ذلك ، ومن هنا فإن صيام رمضان فرصة لتنمية الوازع الداخلي لدى المسلم ، هذا الوازع الذي تعد تنميته محور التربية الفردية الناجحة ، والملموس أن تعاظم هذا الوازع لا يتم إلا من خلال الثقة به والاعتماد عليه في شؤون عديدة ، فهو في ذلك أشبه شيء بعضلات الجسم في أن نموها في استخدامها وتحريكها والاعتماد عليها ؛ ولذا فإننا نرى ضعف الوازع الداخلي لدى أولئك الذين يأتون الفضائل ويقومون بالواجبات من خلال قسر الأبوين أو المجتمع ، فهم يفعلون ما يفعلونه نتيجة ضغط خارجي ، فإذا ما ضعف ذلك الضغط أو تلاشى أتوا من الرذائل والقبائح وأنواع التحلل ما يتناسب طرداً مع حجم الضغوط التي تعرضوا لها فيما مضى ؛ وهذا يجعلنا نساوق بين الرقابة الاجتماعية وتنمية الوازع الداخلي من خلال التربية البيتية القويمة .
3- في الصيام فوائد طبية واقتصادية واضحة :
فهو يخلص الجسم من بعض ما تراكم فيه من الدهون ، ويريح المعدة من العمل الشاق الذي تقوم به على مدار السنة مع فوائد طبية أخرى معروفة .. وفي الصيام توفير إجباري لنحو 40 % من استهلاك الأطعمة والأشربة الذي تعوده الناس في أيام الفطر ، وفي هذا نوع من التعظيم للمالية الإسلامية ونوع من المحافظة على الموارد الغذائية للأمة المسلمة .
4- من خيرات رمضان أنه أضحى ظرفاً لأداء أنواع من القربات لله :
فقد تجاوز صيام هذا الشهر مفهوم التلبس بعبادة من العبادات ليصبح نوعاً من الامتثال لمفردات كثيرة في المنهج الرباني ، ففيه قيام الليل والإكثار من قراءة القرآن والاعتكاف في المساجد ولزوم الجماعات من قبل كثير من المسلمين وإخراج صدقة الفطر والاستبشار بعفو الله وكرمه بما تظهر الأمة من البهجة والسرور في يوم عيدها ، فكأن شهر رمضان مناسبة لازدحام العبادات والقربات في حياة المسلم على نحو لا يتوفر في أي وقت آخر .
5- يمثل الصيام نوعاً من الاتصال والتواصل الاجتماعي :
حيث ترسم الظروف اليومية والمصالح والأوضاع الاجتماعية والطموحات الخاصة مجموعة من الأطياف العازلة لكل إنسان عن غيره مما يؤدي إلى فقد الاتصال أو ضعفه ، وفقد الاتصال في مجتمع ما من أكبر المعوقات له عن النمو والتجانس والصمود في وجه الكوارث وألوان العدوان الخارجي ، ومن ثم فإن امتناع أبناء المجتمع المسلم عن الطعام في وقت واحد مهما كانت أوضاعهم الاجتماعية وتناولهم له في وقت آخر محدد ، إلى جانب الشعائر الجماعية الأخرى التي تعودها المسلمون في هذا الشهر المبارك من أهم ما يوحد الشعور بالتجانس ، ومن أهم ما يزيل الحواجز التي تولدها الظروف المختلفة .
الصيام اليوم : إن مهمة المبادئ العليا أن تكيف حياة الناس وتوجهها وفق مضامينها ومعطياتها ، لكن تلك المباديء لا تعمل في فراغ ، وإنما تشتبك مع أمور عديدة من جملتها : العادات الموروثة والظروف الضاغطة والأهواء والشهوات الجامحة والتأويلات والأفهام الخاطئة للمنهج والمباديء ، وهذا كله ينتهي إلى شأن اجتماعي معاش يلخصه ميل الناس بصورة دائمة إلى جعل النهج الرباني جزءاً من ثقافتهم ، وقد يكون جزءاً صلباً ، وقد يكون جزءاً رخواً على مقدار إقبال الناس على الإسلام وهي التي تجعل من المنهج موجهاً للثقافة ومهيمناً عليها . ومن هنا فإن أخطر علل التدين هي تلك التي تصيب الأمة في مكانة منهجها ومبادئها من ثقافتها العامة ، فتكف المبادئ عن توجيه الفعل ، أو تنحرف عن غاياتها ومقاصدها ، فلا تحقق الحكم المقصودة في تشريعها ، ويكون الجهاد الدائم هو محاولة الإبقاء على المنهج الرباني ساطعاً متألقاً متميزاً عما تواطأ عليه الناس من عادات وتقاليد .
ومازال بحمد الله في مجتمعنا المسلم من يحرص على الصيام على الوجه الأكمل ، وهم في تزايد مستمر لكن الأكثرية الكاثرة من هذه الأمة انحرفت بالصيام عن مقاصده التي ذكرنا أهمها آنفاً ، فعلى حين كان السلف يعدون رمضان فرصة سانحة يغتنمونها في صنوف الطاعات ، نجد كثيراً من المسلمين يسهرون الليل في ضروب من اللهو المختلفة حتى إذا اقترب وقت السحر تناولوا ما لذ وطاب من الأطعمة ، ثم ناموا قبل أداء صلاة الفجر ، وإذا كان هذا النائم موظفاً فإن وقت بداية العمل في رمضان يكون متأخراً ، فيقوم متثاقلاً إلى عمله ليكمل نومه هناك ! وإن كان غير موظف فإن رمضان هو شهر النوم عنده فيستغرق في نومه إلى قبيل المغرب ، فيفوت عليه أكثر من فريضة صلاة ! ! ومع هذا فإن الشعار المرفوع لدى كثير من الموظفين هو أن رمضان شهر عبادة وليس شهر عمل (العبادة التي قدمنا صورة منها ! ) .
أما تهذيب النفس من خلال الجوع فحدث عن هذا ولا حرج ، حيث إن التجار يشرعون في الإعداد لمستلزمات رمضان قبل مجيئه بنحو شهرين ، وتقدر بعض الجهات أن ما يستهلكه كثير من المسلمين في رمضان يصل إلى ثلاثة أمثال ما يستهلكونه في غير رمضان ! ! وقد صار رمضان عبئاً ثقيلاً على الحكومات التي توفر السلع المدعومة لمواطنيها !
وقد كان السلف يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، فإذا انصرم دعوا الله ستة أشهر أخرى أن يتقبل منهم أعمالهم في رمضان . أما اليوم فإن كل وسائل الإعلام في العالم الإسلامي تشعر الناس بأن رمضان ضيف ثقيل فكأنه شر لابد منه ، ومن ثم فإن كثيراً من البرامج ينصرف إلى الترفيه عن الناس بما يجوز وما لا يجوز ، وانقلب الشهر المبارك إلى موسم للهو واللعب !
وما يحدث لكثير من المسلمين في هذا الشهر المبارك أمر مفهوم ، حيث إن الأمة حين تمر بحالة من الركود الحضاري تكف مبادئها عن الفعل وتسيطر عليها الشكليات والعادات ، فجيوشها لا تقاتل ، ومبدعوها لا يعرفون والفضائل فيها شعارات ، والعبادات عادات .. وتستمر في ذلك حتى تندثر باعتبارها أمة متميزة أو يبعثها الله بعثاً جديداً يحيي ما اندرس من سابق عهدها ، وما ذلك على الله بعزيز .