منذ أن يدرك الإنسان تبدأ تطلعاته وآماله ويبدأ معه سعي الإنسان، ومن الناس من يتمنى أن تمطر السماء عليه ذهبا أو فضة، ومنهم من يسعى لتحقيق أمنياته وتحويلها إلى واقع، وخلال هذه الرحلة والأمنية التي تبدأ فكرة في الخيال إلى تحقيقها يلتزم الناس بقواعد شريعة الله أو شريعة الغاب ويحترمون حقوق الآخرين، أو ينتهكونها ويلتزمون بالأخلاق الحميدة، أو يخرجون عن إطارها التي رسمتها الشرائع السماوية.
وخلال رحلة الإنسان إلى ربه وسعيه في الدنيا كل خطوة تكتب له أو عليه وسيجد جزائها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
بداية نريد أن نؤكد على أن للقلوب سعيها وللجوارح سعيها ومن سعي القلوب ما حدثنا عنه أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ » [صحيح البخاري]. إن نية هؤلاء خالصة وعزمهم أكيد لكن حبسهم العذر كما قال النبي ﷺ هذا العذر لم يحرمهم من الأجر فقد كانت قلوبهم مع إخوانهم حين عانوا ما عانوه في غزوة العسرة هذه بل تكاد تسبقهم.
وإذا أردنا أن نقرب الصورة عندما تزور بيت الله الحرام تجد أناسا يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة وهم لاهون في الحديث مع رفاقهم أو تصوير أنفسهم، وتجد آخرين ينظرون إلى الكعبة من خلال التلفاز تكاد قلوبهم تطير إليها، لو أمكنهم ذلك يتمنون من الله تعالى زيارة بيته وتدمع أعينهم كلما رأوه أو أتى ذكره، ترى أيهما أشد تعلقا بالبيت وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى ؟؟!!
يا راحلين إلي البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعـن قدر ومن أقـام على عذر فقـد راحـا
وأثناء سعي الإنسان في دنياه بقلبه أو بجسده هناك سعي قاصر عليه، وسعي يشمله ويشمل غيره، فمن السعي القاصر على النفس ذكر الله والمشي إلى المساجد والصلاة.. ومن السعي المتعدي بناء المرافق التي ينتفع بها عموم الناس أو المساهمة في بنائها والدعوة إلى الله تعالى، وها هنا نذكر قول النبي ﷺ : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» [صحيح مسلم].
ومن كرم الله تعالى أن من يقوم بالسعي الذي يتعدى نفعه إلى الغير يأخذ أجرا مثل من انتفع بسعيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» [الصحيحين]وفي هذا تشجيع على السعي وتحفيز لأصحاب الهمم الضعيفة وتوسيع لدائرة الخير بين الناس .
ومن السعي الذي يضيف لصاحبه أجورا في حياته وبعد مماته ما أرشد إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين قَالَ: ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ” [صحيح مسلم]، فهذا العلم يحيي النفوس ويهديها للتي هي أقوم ويجنبها خسارة الدين والدنيا، وقد تكّون نتيجة سعي وجهد وسهر ومتابعة وحرمان من مشاركة الناس سهرهم وسمرهم، فكل من انتفع بثمرات هذا السعي يرفع من رصيد العالم ويثقل من موازينه.
والولد الصالح نتاج جهد وصبر ومصابرة من الوالدين. والصدقة الجارية التي ينوي بها صاحبها نيل الثواب من الله تعالى والإحسان إلى الخلق من السعي الذي يستفيد منه بعد مماته.
من السعي الذي يبقى أثره لأجيال وأجيال السعي لإرضاء الله سبحانه وتعالى هذا السعي يكتب أجره للعامل ويبقى اثره لتنتفع بها الذرية ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: 82] لقد مات الأب وبقي الكنز عرضة للنهب، لكن الله تعالى يحفظه بحفظه ويسخر للأيتام عباده الصالحين لكي يبقى الكنز حتى يبلغوا مرحلة يتمكنون فيها من حمايته.
يستفيد الانسان من سعي غيره إذا كان سببا في هذا السعي بأن دعا إليه أو شارك فيه بأي نوع من انواع المشاركة، ونحن نفهم من ذلك أن نوسع من دائرة سعينا لتشمل حث الآخرين على سلوك الطريق المستقيم ومعونتهم على تجاوز عقباته والتواصي فيما بيننا وبين أهل الخير على الحق والصبر، لكن النبي ﷺ يحذرنا من الاتكال على سعي الغير مهما كان قريبا، وضرورة أن يكون لنا سعينا الخاص بنا حين يخاطب أهل بيته.
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ»[سنن النسائي]، مع أن فاطمة كما قال ﷺ بضعة منه، ولكنه ﷺ يبني في نفوس الأمة قيام الإنسان بما يجب عليه، ويرسخ أهمية السعي في مرضاة الله تعالى حتى لا يتكل أحد على أب أو أم أو قريب، وإذا اتفقنا على هذا المعنى أمكن أن نقول إن اتكال الناس بعضهم على بعض مما يقلل من سعيهم ويضيع عليهم الفرص الكثيرة، ونهاية هذه الفكرة أن نستيقظ يوما فنجد مستشفيات بلا أطباء، وأماكن تحتاج للحراسة بلا أمن، وقس على ذلك كل مناحي الحياة.
مفهوم الحساب
والإسلام يرسخ في ذهن أتباعه أن سعيهم سيوزن بميزان العدل ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47] وأن أعمالهم سيجازون عليها ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31] وهذا الجزاء يمتد ليشمل الدنيا والآخرة، فقد ثبت عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ، حَسَنَتُهُ يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ” [مسند أبي داود الطيالسي] هذه المفاهيم تتطلب من المسلم الوعي قبل السعي، وإدراك ما هو مقدم عليه، والتخطيط لكي يصل لهدفه بسلامة وأمان، والحذر من الاغترار بما يخدعه، واستحضار النية الصالحة، والتوجه لله تعالى بطلب التوفيق ونيل الأجر.
واستحضار الحساب يجعل المسلم يقظا لمسؤليته عن عمله أمام الله تعالى وأمام الناس، وهذا يترتب عليه الاحتياط ووزن العمل بميزان الشرع وتقدير المكاسب والخسائر، كما يجعل المسلم يراقب نفسه قبل السعي، هذا الحساب الذي ينتظره المسلم على سعيه يترتب عليه الجزاء، والجزاء في الإسلام دنيوي وأخروي ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97] وللسعي لطلب المغفرة جزاؤه الدنيوي والأخروي ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12]
استحضار مفهوم المسؤلية والحساب والجزاء يضبط حركة السعي، ويوجه المسلم إلى طلب مرضاة الله تعالى وحده واتباع شرعه والتقيد بما أحل وحرم.
ويرشدنا القرآن الكريم إلى أهمية السعي مهما كان في نظر الناس شيء يسير، فإن له عند الله تعالى تقديرا كبيرا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» [صحيح البخاري]، والكسب الطيب نتيجة لسعي منضبط بضوابط الشريعة وثمرة هذا الكسب مال من حلال السعي لمرضاة الله تعالى بشيء من هذا المال الحلال مهما كان في النظر بسيطا أو قليلا يبارك الله تعالى بل ترشدنا آيات الكتاب العزيز إلى أن أقل ما يطلق عليه عمل مهما كان حجمه له أجره عند الله تعالى وأن هذا الأجر يراه الساعي ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾
وينهانا النبي ﷺ عن احتقار العمل الصالح مهما كان قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ” [مسند أبو داود الطيالسي] فقد تكون الحسنة الناتجة عن هذا السعي هي التي تثقل الميزان وتنجي صاحبها.