تأخذنا سورة محمد في رحلة إيمانية عميقة، تبلغ ذروتها في الآيات الختامية [36-38] التي ترسخ قاعدة “والله الغني وأنتم الفقراء”. يقدم هذا التفسير خلاصة مركزة ورسالة خالدة حول حقيقة الدنيا، وأهمية الإنفاق، وعلاقة العبد بربه الغني الكريم. دعونا نتأمل في هذه الدروس الربانية.

ثبت في الحديث الصحيح ما يدل على أن سورة الفتح نزلت بعد مُنصَرَفه من الحديبية، وأن ذلك عند كراع الغميم (مكان قرب مكة) فقرأها عليه الصلاة والسلام وهو على راحلته[1]، ومثل ذلك يعد مدنيًّا على المشهور، وهو أن المدنى ما نزل بعد الهجرة.

ولقد بدئت السورة الكريمة بالبشارة بالفتح المبين، وبما أفاء الله به على رسوله والمؤمنين من نصر عزيز وتأييد، وبما أنزله من سكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وذكرت جزاء المؤمنين وعذاب المشركين والمنافقين الذين تشككوا في انتصار الرسول على أعدائه، ثم تمضى الآيات مبينة أن الله أرسل محمدا للناس شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، ليتحقق الإيمان بالله ورسوله، ويعم الخير والحق بين الناس بطاعته وتعظيمه عز وجل ومحدثة عن قدر الذين بايعوا الرسول وعاهدوه على نصرته، والاستشهاد في سبيل دعوته، وأنهم بعملهم هذا ومبايعتهم له إنما يبايعون الله، ويد الله فوق أيديهم بالنصر والتأييد، فمن نقض منهم العهد بعد ميثاقه فضرر ذلك عليه، ومن أوفى بالعهد فسيؤتيه الله أجرًا عظيمًا. [تفسير الألوسي]

أولًا: حقيقة الحياة الدنيا.. “لعب ولهو”

تبدأ الآيات بتوصيف صادم ومباشر لطبيعة الحياة الدنيا:

﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ [محمد: 36] 

وهذا الوصف ليس تحقيرًا للسعي في الأرض أو عمارها، بل هو وضع للأمور في منظورها الصحيح، فالدنيا، بطبيعتها وزينتها ومشاغلها التي لا تنتهي، تشبه في سرعتها وعدم استقرارها لعب الأطفال ولهوهم؛ فهي مؤقتة، زائلة، ولا يبقى منها إلا ما كان لله تعالى.

هذا التشبيه البليغ هو تذكير للمؤمنين بألا يضعفوا أمام أعدائهم، وألا يتعلقوا بالدنيا تعلقًا ينسيهم واجباتهم، خاصة في ميدان البذل والتضحية. فالحياة الحقيقية والدار الباقية هي الآخرة.

وحب الفتى طول الحياة يذله … وإن كان فيه نخوة وعزام

ثانيًا: الإيمان والتقوى.. مفتاح الأجور الإلهية

بعد أن بين الله حقيقة الدنيا، أوضح لنا طريق الفوز الحقيقي الذي يتجاوزها:

﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ [محمد: 36] 

وفيه تذكير بالكف عن النهي الذي جاء في الآية السابقة ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [محمد: 35]  يتطلب التقوى لأن الإيمان الصادق بالله ورسوله، والتقوى التي تعني فعل الأوامر واجتناب النواهي أساس كل خير، والشرط لنيل الأجر الكامل من الله. فالله لا يضيع أجر من أحسن عملًا إذا كان عمله مبنيًا على أساس متين من الإيمان والتقوى.

قال ابن عاشور: لأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حب إبقاء المال الذي ينفق في الغزو، فذكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نهوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم. [التحرير والتنوير]

ثالثًا: رحمة الله في التكاليف.. “ولا يسألكم أموالكم”

من أعظم مظاهر رحمة الله ولطفه بعباده أنه لا يكلفهم ما لا يطيقون، خاصة في الأمور المالية التي تتعلق بها النفوس. يقول تعالى:

﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)﴾ [محمد: 36-37] 

والمعنى واضح وعميق:

  • لا يسألكم أموالكم أي لا يطلب منكم التصدق بكل أموالكم، فهو يعلم مدى حبكم لها.
  • إن يسألكموها فيُحْفِكم“: “الإحفاء” هو الإلحاح والتشديد في الطلب. فالله يخبرنا أنه لو طلب منا كل أموالنا وألحّ علينا في ذلك، لكانت النتيجة الحتمية هي البخل (تبخلوا).
  • ويُخرج أضغانكم“: والنتيجة الأخطر هي أن هذا التكليف الشاق سيُظهر ما في النفوس من حقد وكراهية (الأضغان) تجاه هذا الدين الذي يأخذ أموالهم، حيث يكون طلب الإنفاق من أموالكم سببا في ظهور الأضغان.

قال قتادة: قد علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وهذا كما ذكر ابن كثير حق وصدق، فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه..

وهذه الآية الكريمة كما قال ابن عاشور: أصل في سد ذريعة الفساد.

وهذا الأمر الموصوف هنا كان حال العدد الكثير من الصحابة يومئذ في المدينة حيث كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فراعى الله حالهم فيسر عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم.

سبحان الله! إنه يعلم طبيعتنا البشرية، لذلك شرع لنا القليل من الكثير (كالزكاة والصدقات)، وهو عطاء يطهرنا ويزكينا ولا يرهقنا، وهذا منتهى اللطف والرحمة.

رابعًا: حقيقة الإنفاق.. أنت الرابح الأول

يأتي النداء المباشر للمؤمنين ليضع هذه المفاهيم موضع التنفيذ:

﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [محمد: 38] 

بعد كل هذا التيسير والرحمة، يدعوكم الله للإنفاق في سبيله (وهو يشمل كل أوجه الخير)، ومع ذلك يتردد البعض ويبخل. وهنا تأتي القاعدة الذهبية: من يبخل فإنما يحرم نفسه فقط. لأن أثر البخل يعود عليه، ومن هنا حمل المعنى على أمرين:

  1. يجوز أن يكون المعنى: تدعون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال: والله الغني وأنتم الفقراء. ويكون معني تدعون أي تؤمرون أمر إيجاب.
  2. ويجوز أن يحمل تدعون على دعوة الترغيب، فتكون الآية تمهيدا للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل.

 ويكون معنى قوله: فإنما يبخل عن نفسه على هذين الاحتمالين:

  1. على الاحتمال الأول (فإنما يبخل عن نفسه) إذ يتمكن عدوه من التسلط عليه فعاد بخله بالضر عليه.
  2. وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق.

خامسًا: القاعدة العظمى.. “والله الغني وأنتم الفقراء”

تصل الآيات إلى ذروتها في تقرير حقيقة الوجود وعلاقة الخلق بالخالق في جملة جامعة مانعة:

﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾ [محمد: 38] 

ومجيء “ال” التعريف في لفظ (الغني والفقراء) لإفادة الجنس وفيه لفتة بلاغية قال ابن عاشور:
“وهذا التعريف  مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصر، أي قصر الصفة على الموصوف، أي قصر جنس الغني على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب أنتم وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة أل على معنى كمال الجنس، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه، وإن كان يثبت بعض جنس الغنى لغيره. وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغنون في بعض الأحوال لكن ذلك غنى قليل وغير دائم.”

وهذه الآية تهدم كل شعور بالمنّ أو الاستكبار عند العطاء والإنفاق.

  • الله هو الغني غنىً مطلقًا وكاملاً. هو لا يحتاج إلينا ولا إلى أموالنا أو عبادتنا. أمره بالإنفاق ليس لسد حاجته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
  • ونحن الفقراء فقرًا ذاتيًا وكاملاً. نحن المحتاجون إليه في كل نفس وكل لحظة. نحن الفقراء إلى ثوابه، ورحمته، وفضله. فالإنفاق هو في الحقيقة استثمار لمصلحتنا نحن، وسدٌ لحاجتنا وفاقتنا يوم القيامة.

سادسًا: سنة الاستبدال.. تحذير إلهي

تُختتم السورة بتحذير شديد، وبيان لسنة إلهية ماضية:

﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38] 

المعنى: إن أعرضتم عن حمل هذه الأمانة، وتوليتم عن الإيمان والتقوى والإنفاق، فإن الله قادر على أن يذهب بكم ويأتي بقوم آخرين أفضل منكم، يكونون أطوع لله وأكثر بذلًا وعطاءً.

حمل رسالة الإسلام شرف عظيم ومسؤولية كبرى، ومن لا يقدّر هذا الشرف، قد يسلبه الله منه ويمنحه لمن هو أهل له. وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي ، عند تلاوته لهذه الآية، ضرب على كتف سلمان الفارسي وقال: “هذا وقومه…”، في إشارة إلى أن هذا الدين سيحمله رجال صادقون من أي عرق أو مكان إذا قصّر أهله.

وقد أرشدت الآيات إلى بعض الآداب والفوائد منها:

  1. الدنيا دار لعب ولهو ومشاغل وشهوات، فالسعيد من استخدمها للآخرة، ولم ينس نصيبه منها بقدر الحاجة.
  2. المال محبوب الإنسان فهو يحب البخل وتأمره نفسه بالإمساك، لذا لم يأمر الله لطفا منه ورحمة بإنفاق جميعه في سبيله، كالزكاة والجهاد ووجوه الخير، بل أمر بإخراج البعض من الربح الذي هو من فضل الله وعطائه، لا من رأس المال، ليرجع ثوابه إلى المنفق نفسه.
  3. أكد تعالى لطفه بعباده في التكاليف المالية، فذكر أنه طلب منهم اليسير من أموالهم، فبخلوا، فكيف لو طلب منهم الكل؟!.
  4. من بخل بتقديم شيء من ماله في سبيل الله كالجهاد وطرق الخير، فإنما يبخل على نفسه، فيمنعها الأجر والثواب[2].