ليست الغرابة كلها في المعاجز والخوارق التي تخضع لها الرقاب وتُذعن لها الألباب، بل الإعجاز أيضا فيما هو مبثوث حول البشر، فهم ينظرون إليه في الغدو والرواح، ولا يتعظون ولا يعتبرون، ومن كثرة الاستعمال يكون الابتذال، ثم العمى عن مشاهدة النعم الكثيرة في بديع صنع الله رب العالمين.
ومن تلك النعم المغفول عن تدبّرها والافتكار فيها نعمة الماء المسخّر في السماء والأرض، والذي هو أصل الخلق ومبدؤه، ولعله المادة الأولى التي تصيّر منها كل شيء، كما هو الظاهر من قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ (هود، 7).
وورد النص بأصالة الماء في خلق الدواب المبثوثة، في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ( النور، 45)، فمنه خلق الإنسان: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ ( الفرقان، 54)، وهو من النعم المتعدّدة مصادرها ومواردها، فهو من:
- البحر: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾، ( الفرقان، 53)
- استنباط العيون : ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ ( البقرة، 60)
- الأنهار: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾ (إبراهيم،32)
- السماء: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ (ق،9)
- باطن الأرض: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾ (الزمر، 21)
كان الماء من جنود الله التي سخرها لإنزال المثلات بالظلمة، فبه هلك قوم نوح، وفرعون وجنوده في اليم العظيم، ومن قبله ذاق شعب مصر من آية الماء وطغيانه وفيضانه، والماء أيضا وسيلة لإنهاء الحياة الدنيا عندما تُسجّر البحار، وهو مُهلك العتاة عندما يسقون في جهنم ماء حميما.
هذا الماء الذي نراه ونحيا به ونرتفقه محلّى بالأسماء الكثيرة حيث النفع والحاجة والاستعمال والاستقلال، فهو الغيث، والمطر، والمزن، وبه تحيا الأرض بعد الموات، فتربو وتزهر، وهو من دلائل البعث ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ( الحج، 5-6)
كما أن الماء في مواضع عديدة مجال للاعتبار بزوال وتغير الدنيا، فالدنيا زائلة بأهلها متغيرة في أحوالها كتقلبات الماء في أحواله السائلة والجامدة والبخارية، فالعالم كله عالم الكون والفساد، والثبات والإطلاق والدوام لخالقه المنزّه عن الحوادث والنقائص، وفي هذا نقرأ قوله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ ( الكهف، 45)
كان الماء محل تقديس من الصابئة، وتقدير في المسيحية فبه يكون العماد، ولكن الإسلام تجاوز ذلك كله إلى الاهتمام البالغ بالماء اعتناء واستعمالا واختزانا، فبه تكون الطهارة الأصلية التي نستبيح بها الصلوات والطواف والتلاوة، ولذلك شٌحنت النصوص بالوجوب الكفائي والعيني والأمر الفردي والجمعي في الحفاظ عليه، وعدم تبذيره، أو تلويثه، أو الإسراف في استعماله.
ففي الشأن العبادي جاء الأمر بالتقلّل فيه، وكان فعل النبي (ﷺ) تجسيدا لذلك عندما كان يتوضأ بمد ويغتسل بصاع، ومَرَّ مرة بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ، فقتال:ما هذا السرفُ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : أَفي الْوُضوء سَرَفٌ ؟ قَالَ : نعم، وَإِن كنت على نهر جارٍ” (ابن ماجة، 419)، واعتبر السرف اعتداء، فقال:”يكون في أمتي قوم يعتدون في الطهور والدعاء” (أبو داوود، 96).
ولأجل ذلك اختلف الفقهاء في أفضلية الغسلة الواحدة أو الثلاث، وتوسط بعضهم، فقال الواحدة للعالم المسبغ، والثلاث لمن قصُر عن ذلك، والمنع لمن جاوزها.
كما نهى النبي (ﷺ) عن تلويث الماء:” لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسلُ فيه “( البخاري، 236)، وورد اللعن في حديث: ” اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق ” ( ابن ماجة، 328)، وجاءت أحاديث مانعة من كل ما يغير طبيعته، فكان النهي عن عدم تغطية الأواني، أو اختناث الأسقية والشرب من أفواهها، والنهي عن التنفس فيها. وجاء الأمر بتخميرها.
احتفى المصطفى عليه السلام بالماء، وكان دائم الذكر لنعمة الله فيه، فعندما ينزل الغيث، يبتهج ويدعو ويكشف صدره، ويقول:”إنه حديث عهد بربه تعالى” (مسلم، 898)، وجرت سنّته بحمد الله تعالى عند كل ري منه في صيغ كثيرة لافتة لهذه النعمة العظمي التي تحيا بها الأجسام.
واهتم عليه الصلاة والسلام بتوفير المياه لمدينته، فاحتفر آبار اكثيرة، وجعل الجنة ثمنا لمن ابتاع بئر رومة، فاشتراها عثمان بن عفان، وندب إلى سقيا الماء واعتبرها من كفارات الذنوب ففي حديث سعد بن عبادة أنه سأل رسول الله ﷺ فقال: إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: ” نعم ” قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. قال الحسن: فسقاية أم سعد بالمدينة اليوم (البيهقي، الشعب، 3017)، ولأجل ذلك توراد الصالحون على نصح الخاطئين ممن ولغوا في الدماء بتكفيرها بسقيا الماء.
ومتابعة لسنة النبي وسيرته في العناية بالماء استنباطا واستعمالا واختزانا كان المدونات الفقهية مترعة بالتفصيل في أحكام المياه، وصفاتها، ومواضع استعمالها، وملوثاتها، ومجاورها، وما يطرح فيها، ونزح الآبار، وحياض الصحراء، وماء الميازيب، وأحكام المزارعة والمساقاة، والآبار والحضار، وقسمة المياه.
أبهر المسلمون غيرهم في عصورهم الذهبية في الماء، فكنت الإبداعات الإسلامية في بناء السدود وحفر الآبار، وبناء المحاجر، وجر القناني، وتأمين الطرق وسبل الحج وفجاجه بالماء أمرا مشهودا، وترك المسلمون كتبا في المياه وتحولها وكيميائها، وعشرات الرسائل في الأشربة، وألّفوا في علم الحيل طرائق لاستنباط المياه وتوزيعها، ولا تزال نواعير حماة، وفقارات توات بالجزائر شاهدة على هذا.
وعرفنا عجائب عيون زبيدة في مكة، وإبداعات ترع القاهرة، وقنوات قرطبة وإشبلية، ولا زال لغز الماء في الأندلس محيرا للدارسين، وقد ترك مؤرخو البلدان وكتاب المسالك والممالك توصيفا جميلا لصنع المسلمين في بناء الجباب، وشق الأقنية، وحفر الآبار.
واليوم يعيش العالم مشاكل مرتبطة بالمياه والأنهار، وقد شُغل الناس بذلك، وبتغير المناخ، وتوالي الجفاف، وكلفة استعذاب وتحلية مياه البحار، والتزايد السكاني، مما يجعل قضايا المياه من أولويات الأمم.
والحل الذي ينبغي أن يسهم فيه الفقه الإسلامي هو كرّ الكلام في إحياء الوعي بنعمة الماء وكيفيات الاحتفاظ به، والاهتمام بمخاطر حروب المياه على الأمن القومي، والاقتصاد في استغلال الموارد المائية، واقتناص كل الخبرات العالمية في تقطير الماء واستغلاله بالقدر الموزون، وتدريب الناشئة في دورات ممنهجة على ذلك، والتأكيد على الاعتدال في استغلال الموارد المائية وعدم إهدارها والإسراف فيها، إذ هي أهون موجود، وأعز مفقود، وهي النعمة المسؤول عنها في الحال والمآل، وما يعقل هذا إلا العالمِون.