يحتاج الإنسان كي يبقى على شيء من حيويته إلى أن يعيش بين مجموعة من التناقضات. هذه التناقضات تمثل الهوة الفاصلة بين الموجود والمطلوب. فحين يكون المطلوب أكبر من الموجود فإن الإنسان يستخدم قواه المختلفة لجعل الموجود -بطريقة ما- يفي بالمطلوب. ومع أن المطلوب سيظل أكثر من الموجود -على المستوى العالمي- إلا أن حداً معيناً من الوفرة وتوفر الظروف المواتية، يجعل إثارة الطاقات الإنسانية الكامنة ضعيفاً؛ مما يجعل تفاعلها وحراكها في النهاية ضعيفاً.
ونرى أن المنظومة الرمزية الليبرالية توحي للمواطن الغربي بالاندفاع نحو أمرين: تحقيق الاعتراف به من قبل الآخرين، والسيطرة على الطبيعة.
ويمكن تفسير أكثر أنشطة الغربي-حتى أعمال الخير- من خلال هذين الأمرين. وهذان الهدفان يمكن لكثير من الناس تحقيقهما؛ فالساسة الكبار والرياضيون والفنانون يشعرون في مرحلة مبكرة أنهم حققوا ما يطمعون إليه من شهرة وثراء وأمن وتقدير؛ مما يجعل إحساسهم بنوع من الفراغ أمراً محتماً. إن الصراع من أجل تحقيق هدف سام يعني وجود مسوِّغات للوجود. وكثير من الناس يموتون وهم واقفون على وجه الأرض؛ لأنهم فقدوا المبرر لوجودهم. من هنا كانت خشية (نيتشه) الكبرى من انتصار (أسلوب الحياة الأمريكي) الذي يتميز بوجود الوفرة والأمن والحرية وأقصى حدود المتعة؛ حيث إن ذلك سيعني انتهاء الإنسان بمعناه الحقيقي. سينتهي وجوده بتوقف عمله وصراعه. سيختفي العمل الذي ينفي الفرضيات والخطأ، أو بصفة عامة: الذات في مقابل الموضوع.
إن الصراع الدائم من أجل تحقيق أهداف بعينها يجعل الإنسان صادقاً مع نفسه، بل إنه لا يجد نفسه، ولا يحس بفعاليته الداخلية إلا من خلاله. لكن هناك شرطين مهمين لنجاح ذلك الصراع في تحقيق أغراضه.
الأول: أن تكون حركة الإنسان اليومية ليست عبارة عن انشغال لا صلة له بداخل الإنسان، بمعنى: أن يكون صراعه عبارة عن استثمار مثمر لطاقاته الداخلية، واستجابة لكينونته الذاتية.
الثاني: شعور الإنسان أن ذلك الصراع يلبي أشواقه الروحية نحو الخلود والاستمرار الأبدي، حتى يشعر بأن الجهد الهائل الذي يبذله ليس جهاداً في غير عدو. وبمعنى آخر: أن تكون أهداف صراعه غير قابلة للنفاد والاستنزاف مهما طال الزمن، وعظم العمل في سبيل تحقيقها.
وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العبودبة لرب العالمين والسعي إلى الفوز برضوانه و دار كرامته!
هذا المشروع العظيم يستغرق الحياة كلها -ولو كانت كعمر نوح- على نحو يشمل الأنشطة الخيرة كافة، حيث يشعر المرء أنه في حالة من العبودية كلما قام بعمل خيّر، وذلك أكثر من أن يحصى، فالنوم مبكراً من أجل الاستيقاظ قبل الفجر، والابتسام في وجه أخ، وإماطة الأذى عن الطريق، وإغاثة ملهوف، والسعي في حاجة مسلم، والكسب الحلال على العيال، والتمرين الرياضي لتقوية الجسم، كل ذلك وأشياء أخرى كثيرة أنشطة يومية تعمر الدنيا وتدني المؤمن من الوصول إلى هدفه الأسمى، وهي جزء من المشروع العظيم الذي التزم المسلم بأدائه ما دام حياً.
بعض المسلمين يود أن يتوج إنجازه لمشروعه العظيم بالشهادة في سبيل الله تعالى، وبعضهم يحب أن يتوجه بأن يموت وهو يطلب العلم، على نحو ما ذكر عن أحد العلماء أنه طلب من ابنه أن يحفظه أبياتاً من نظم أحد الفنون وهو في سكرات الموت؛ حتى يلقى الله وهو يطلب العلم! وبعضهم توج مشروعه بأن صبر عن الماء عند الاحتضار كما فعل بعض الصحابة وآثر أخاه به من شدة حاجته إليه..
والجميل في هذا أن المسلم يفعل كل ذلك وهو يشعر بالغبطة والسرور، لأن ذلك يرضي الله تعالى ويشعره بالنجاح في مغالبة المثبطات والملهيات. هذا هو المشروع الوحيد الذي يستنفد العمر دون أن ينجز، ومن ثم فإن صاحبه لا يشعر بشيء من الفراغ، بل يشعر أن المطلوب أكثر من الموجود.
المشكلة في هذا أن كثيراً من المسلمين انحسر لديه مفهوم العبادة؛ ليقتصر على بعض الشعائر. وبعضهم لم يحسن توزيع أنشطته بشكل جيد على كل جوانب مشروعه. ومنهم من فقد الفاعلية المطلوبة لتجسيد المبادئ في واقع ملموس…
وعلى كل حال فإن المسلم هو الإنسان الوحيد القادر اليوم على الانشغال بمشروع عظيم متناسق مع معتقده ورؤيته الكونية.