بقدر ما يحرص المؤمن الصادق على مدخل الصدق المؤسس على الإخلاص فإن من استهواه الشيطان وسار به في أودية الضلال والملذات والانحرافات الفكرية والأمراض القلبية يقطع صلته بالمقاصد النبيلة ولا يدخل مجالاً حياتيّاً إلا مستصحبا للذاتية القاتلة وكأن الظلم انطبع على نفسه وتملكها وأحاط بها من كل جانب حتى لَكأنَّ هذا الظلم للنفس اختيار حر ومسلك إرادي انعقد عليه العزم وأضحى يلازم صاحبه في حركاته وسكناته.
فالغني الذي تتحدث عنه سورة الكهف أعمته الثروة حتى تغشاه البطر وركبه الطغيان فدخل بساتينه وقلبه يغلي بكفر النعمة بل بالكفر العقدي، ألم يقل في غروره: “وما أظن الساعة قائمةً” – سورة الكهف 36 – ؟
لو كانت معاني الإخلاص راسخة في النفوس لما بلغت الأخطاء هذا المدى ، فهي الآن خطايا
وكان أحرى به وهو يقف على المحاصيل الوفيرة ويرى الزروع والثمار والمياه المتدفقة أن يواري ذاتيته خلف شهود النعم الإلهية، لكنه دخل حقله وهو ظالم لنفسه مبيتا لإنكار أفضال ربه مصمما على معتقداته الفاسدة وفكره المنحرف فجرّ على نفسه عقوبة دنيوية قاسية “وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ” – سورة الكهف 42 ، واعتبر بنفسه كما يحدث دائما للأشقياء وقد كان بإمكانه أن يعتبر بسنن الحياة ونواميس الكون ويتجنب زوال النعم.
وكم من إنسان تطمس بصيرته حينا من الدهر أو الدهر كله فيشرع في عمل أو يخوض معتركا معينا وهو مكبل بهوى نفسه عازم على الانتصار لها بالحق وبالباطل.
وانظر مثلا إلى الذين يسمون أنفسهم ” الديمقراطيين ” أو ” الليبراليين ” كيف إذا دخلوا معركة انتخابية في البلاد العربية دخلوها بعقلية إقصائية وجهل بعمق المجتمع وتوجهاته وانتمائه لأصالته وأخلاقه فإذا أراهم الصندوق حجمهم الضئيل المحدود تنكروا لجميع مبادئ وقواعد الديمقراطية التي كانوا يعبدونها من دون الله وأصبحوا نموذجا حيا للفاشية الشرسة والأحادية وإقصاء الخصم بأنذل الوسائل ، وقد حدث هذا في تجارب حديثة عهد بنا وستتكرر كلما بقيت في القلوب أمراضها الفتاكة.
وانظر كذلك إلى بعض الإسلاميين كيف حالت حظوظ النفس بينهم وبين إبصار الحق وقد أبلج والالتزام بالشرع الذي ينادون بتطبيقه والأخلاق التي يبشرون بها فجنحوا إلى الصلف ثم مالوا إلى الاستبداد الفكري وانتهوا إلى تبني خيار الدم الذي جر الويلات على الدين والمؤمنين ، ولو كانت معاني الإخلاص راسخة في النفوس لما بلغت الأخطاء هذا المدى ، فهي الآن خطايا .
لو أدرك صاحب الجنتين هذا المعنى وأبصر أفضال ربه بدل حظ نفسه لما كان نموذج الغني الجاحد كما صوره القرآن الكريم
في كل هذه الحالات نلاحظ استصحاب ظلم النفس، وفيها جميعاً فسدت الأعمال تبعا لفساد النيات فصال الشيطان وجال، ولو صحت البدايات لصحت النهايات ،ومن هنا يبدأ إعداد جيل الربانيين والربانيات الذي يحقق النصر إن شاء الله…قال تعالى ” وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ” – سورة البينة5 ، وقال ” ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ” سورة الشعراء 87
وإنما يبصر الإنسان الحق إذا شرع في أي عمل وهو يرى يد الله تعمل ورأى نفسه يتقلب في أعطاف النعم الربانية فيتنصل قلبه من كل حول وطول ويقبل على خالقه ورازقه بمزيد من العبودية والطاعة والافتقار ، هذا هو التطهر الذي يحبه الله تعالى ” إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين “- سورة البقرة 222 – .
فهل يعتقد مؤمن أن التوفيق سيحالفه إذا لم يتطهر من أمراض قلبه ؟ وهل يجرؤ مؤمن على الدخول في الصلاة ما لم يتوضأ ؟ إن طهارة الباطن صنو طهارة الظاهر بل هي مقدمة عليها ، ولو أدرك صاحب الجنتين هذا المعنى وأبصر أفضال ربه بدل حظ نفسه لما كان نموذج الغني الجاحد كما صوره القرآن الكريم في آي تتلى إلى يوم القيامة ” ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ” – سورة الأنفال 42 .