قال تعالى : { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين } يونس : 40
أفسد الشيء في اللغة، إذا عمد إلى شيء صالح فقام بتغييره وإفساده. كأن يتم إفساد شخص صالح أو قانون صالح، أو نظام صالح، أو سلوك صالح أو غير ذلك من أفعال وسلوكيات وأنظمة وإجراءات.. وهذا يدل على أن الفساد قد يكون جزءاً في كل، إن كان هناك ضبط وربط ورقابة ومتابعة، أو يتحول ليكون هو الكل في الكل، حين تغيب كل تلك الإجراءات والمتابعات، فيتحول إلى منظومة متكاملة بعد حين من الدهر قصير، لا يمكن للصالح أن يعيش معها، وإلا فسد.
وبعيداً عن المقدمات الفلسفية، اسمح لي أيها القارئ الكريم أن أسرد عليك قصة قصيرة، جاءت على شكل نكتة شعبية، لكنها ذات معنى ومغزى، وأحاول أن أكتبها كما وصلتني دون تغيير كبير.
فقير أخوه وزير.. قالت له زوجته: اذهب لأخيك الوزير، يمكن يساعدك بكم فلس.
راح لأخيه الوزير وقال له: أنا حالتي تعبانة ومحتاج مساعدة. رد عليه الوزير وقال: تمام، مر علي بكرة المكتب ويصير خير..
بالغد راح الفقير إلى المكتب ورحب به الوزير وقال له: اقعد ولا تتكلم بشي.. وخليك ساكت وأنا بس أتكلم.. قام الوزير واتصل على أحد المقاولين، وقال له: المناقصة اللي وعدتك فيها، للأسف رست على مقاول غيرك. رد المقاول وقال: كيف يصير هذا يا سيادة الوزير؟! وأنت وعدتني فيها وأنا محتاجها ومرتب وضعي عليها.
رد الوزير وقال: طيب ماشي.. ومن حظك أن المقاول اللي رست عليه المناقصة، موجود عندي بالمكتب. تعال وتفاهم معه، يمكن يتنازل لك عنها. وصل المقاول وقال لأخ الوزير: شو بدك بعطيك بس تتخلى عن المناقصة؟
أخو الوزير قاعد مثل الأطرش بالزفة.. لا كلام ولا سلام ولا تعليق.
رد عليه الوزير وقال: اعطيه ثلاثة مليون ويتركها لك. فطلّع المقاول ثلاثة مليون وحطهم على الطاولة وطلع من المكتب.. فأخذ الوزير مليونين وأعطى أخاه مليون فقط.
فرجع الأخ للبيت وسألته زوجته: خير شو صار معك؟
قال لها: أخوي سرق مني مليونين عيني عينك!!
هكذا الفساد إذا تحول لمنظومة في أي مجتمع، ستجد الكل بصورة وأخرى، إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم، يصيبه من رذاذ هذا الفساد، قبل أن يتحول ذلكم الرذاذ إلى فيضان يغرق الجميع.
قصة سنغافورية
خبير سنغافوري تحدث عن مكافحة الفساد أثناء حضوره مؤتمراً حول رؤية عمان 2040، وتم نشر مقطع من حديثه على وسائل التواصل، يقول فيه: إن كنت ترغب في القضاء على الفساد في مجتمع ما، فإن الطريقة الأكثر فعالية للقيام بذلك، هي التأكد من عدم معاقبة الأشخاص في القاع، ولكن تبدأ بمعاقبة الذين هم بالأعلى.
ثم سرد حكاية وزير من بلده سنغافورة، حين كانت دولة فقيرة تكافح للنهوض والبناء والتأسيس على أسس سليمة، حيث تمت دعوة الوزير لقضاء إجازته هو وعائلته مع أحد رجال الأعمال البارزين. يقول الخبير: وحين عاد الوزير من إجازته، تم اعتقاله وسجنه. لماذا ؟ لأن قبول تلكم الدعوة، في مفهوم بناة الدولة السنغافورية الجديدة، دليل على قبول رشوة على شكل إجازة مدفوعة الثمن، والتي ستتوالى بعدها رشاوى بأشكال وأحجام مختلفة، بحسب طبيعة الأعمال التي يقوم عليها الوزير.
كان اعتقال الوزير وسجنه، رسالة واضحة من حكومة منهمكة في بناء دولة على أساس سليم، لكل من هم في أعلى الهرم الوظيفي بالحكومة، من وزراء ومديرين عامين وأمثالهم، خلاصتها أنه لا مجال لبذور الفساد أن تُزرع هنا وهناك، وسيتم التعامل بحزم وصرامة مع الفساد والمفسدين، فكانت النتيجة أن صارت سنغافورة اليوم، تتصدر المراكز العليا في قائمة أقل الدول فساداً في العالم، ويكاد مؤشر الفساد يصل إلى الصفر!
الواسطة أُس الفساد
بحسب التقرير الصادر عن منظمة الشفافية العالمية لعام 2019 وتم نشره في 2020، حلت الدنمارك ونيوزيلاندا وفنلندا وسنغافورة، المراكز الأربعة الأولى على التوالي، حيث يقاس مستوى الفساد فيها على أساس مؤشر من 100 درجة، أعلاها الأفضل، وأصغرها الأسوأ، وقد سجلت سنغافورة 86 من 100.
في المقابل، ذكرت التقارير الصحفية أنه وللعام الرابع على التوالي، لم يسجل أي بلد في المنطقة العربية تحسناً ملحوظاً على مؤشر مدركات الفساد لعام 2021، حيث أوضحت منظمة الشفافية الدولية، أن السلوك السياسي الممنهج، والمصالح الخاصة التي يتم تحقيقها على حساب المصلحة العامة في الدول العربية، من الأسباب الرئيسية التي سمحت بتعرّض المنطقة لمزيد من الدمار بسبب الفساد.
وأن الاستخدام الفاسد للعلاقات الشخصية، أو ما يسميها العرب من المحيط إلى الخليج بالواسطة، ما زال يدعم ويعزز عدم المساواة في جميع أنحاء المنطقة العربية. إذ وفقاً لمقياس الفساد العالمي 2019 على سبيل المثال، والصادر عن منظمة الشفافية الدولية، فإن واحداً من كل خمسة مواطنين في الدول العربية دفع رشوة، وأكثر من واحد من كل ثلاثة، استخدم العلاقات الشخصية لتلقي خدمات عامة أساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية!
القيادة السياسية هي القدوة
القائد أو الزعيم أو الرئيس والملأ من حولهم، هم القدوة للناس في كل خير أو كل شر. وحين تكون القيادة السياسية على درجة من الأمانة وتبدأ بمحاربة الفساد بجميع أشكاله، فإنه تلقائياً يصل التأثير إلى الناس، فينصلح حالهم، وتتفكك شبكات الفساد وأنظمته تدريجياً، وسبب ذلك قوة وتأثير القيادة السياسية على الناس، كما جاء عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. أي أن هناك من الناس من لا يردعه قرآن ولا حديث، لمرض في نفسه، لكنه يرتدع حين يرى بأس السلطان أو الزعيم.
حين يتحدث الناس عن نماذج من قادة عظام فككوا شبكات الفساد وأنظمته في دولهم، يأتي الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز على رأس تلك النماذج. فقد كان قوياً أميناً في إدارة الدولة، وتولى الخلافة وهو من الأثرياء، فخرج منها بعد عامين مثمرتين فقيراً، على غير عادة الزعماء في كل عصر سابق ولاحق.. فكان مما اشتغل فيه سريعاً ليقطع دابر الفساد والمفسدين، أن بدأ بنفسه وأهله. حيث رد إلى بيت مال المسلمين، كل ما وفرته لهم الدولة، بحكم منصبه الجديد مما ليس لهم فيه حاجة، من خيول وملابس وحلي وغيرها. ثم بدأ العمل الجاد من فوره، فعزل الولاة الفاسدين وأبدلهم بأقوياء أمناء صالحين؛ إذ بصلاحهم تصلح رعيتهم.
ثم قام على حاجيات الناس الأساسية ولم يترك أحداً. فقد كتب ذات مرة إلى أحد ولاته بالعراق، أن أخرج للناس أعطياتهم. فكتب واليه: إني قد أخرجتُ للناس أعطياتهم وبقي في بيت المال مال. فكتب إليه: انظر مَن استدان في غير سفه ولا سرف، فاقضِ عنه. فكتب إليه: إني قد قضيتُ عنهم وبقي في بيت المال مال. فكتب: انظر كل بكر ليس له مال، وشاء أن يتزوج فزوجهُ وأصدِق عنه. فرد عليه: إني قد زوجتُ كل من وجدتُ وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه للمرة الرابعة: انظُر مَن كانت عليه جزية، فضعّف عن أرضه، فأسلِفْه بما يقوَى به على عمل أرضه.. وهكذا كان عمر.
أغنى الناس وأعطاهم من المال العام، من غنائم الفتوحات وثروات وخيرات البلاد، كما كان يفعل جده لأمه، الفاروق عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- حين أمر الفاروق بأن يُصرف لكل مسلم شهرياً، منذ ولادته مبلغاً من المال من ديوان الأعطيات، يزيد بحسب تقدمه في العمر، سواء كان من أسرة غنية أم فقيرة، مسلماً أم غير مسلم، وبغض النظر إن كان يعمل أو لا يعمل، مع مئتي كيلو غرام من الطعام.. وبتلك الإستراتيجية في الإنفاق ورعاية حاجيات الناس، انخفضت نسبة الفقراء واستغنى الناس، وبالتالي لم تظهر بواعث أو دوافع لأن يفسد الناس اضطراراً عن جوع أو فقر أو حاجة.
ومتابعة لقصص محاربة الفساد، سنختم بأمثلة من حياة الفاروق عمر، الذي قضى على الفساد الإداري مثلاً، عبر اختيار القوي الأمين الكفء لأي منصب أو وظيفة. وكان يقول: إني لأتحرَّج أن أستعمل الرجل وأنا أجدُ أقوى منه. وفي مقولة أخرى له رضي الله عنه: من استعمل رجلاً لمودة، أو لقرابة، لا يستعمله إلا لذلك؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
من الإجراءات الأخرى التي قام بها الفاروق للقضاء على الفساد الإداري أو للحيلولة دون ظهوره، أنه منع المسؤولين في الدولة من العمل بالتجارة بشكل مباشر أو غير مباشر. وأنشأ ديوان التفتيش وفكرته أن يجعل على كل مسؤول من يراقبه. وقام كذلك بتعيين مسؤول يتسلم شكاوى الناس ويقوم هو بنفسه -رضي الله عنه – التحقيق فيها، بالإضافة إلى إجراءات أخرى كثيرة لا يتسع المقام لسردها.
إنّ مجتمعاً مثل مجتمع عمر، لا يمكن أن يسرق الناس عن جوع، ولا يرتشي الناس عن حاجة، ولا تضيع حقوق الناس عن ظلم أو تماطل وتكاسل موظفين غير أكفياء ولا أمناء، ما يؤكد مرة أخرى وجاهة مقولة عثمان رضي الله عنه، بأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وواقعية كلمات الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – بأنه لا تسعد الأمة إلا بثلاثة: حاكم عادل، وعالم ناصح، وعامل مخلص.