لقد سبق رسول الله ﷺ علماء التربية الحديثة إلى كثير من وسائل الإيضاح المساعدة على الفهم، المعينة على إدراك المقصود والمطلوب، ولعل أهمها:
(1) القصة:
وهي محببة إلى الصغار والكبار، فيجب أن تكون قصيرة وهادفة. من ذلك: قصة الثلاثة الذين أووا إلى غار هاربين من سيل شديد، فسدت فم الغار صخرة كبيرة تمنهم من الخروج، ولما نفذ الزاد والماء، وأوشكوا على الهلاك، توسل كل منهم إلى ربه تعالى بعمل صالح قام به لوجه الله تعالى.
أما الأول فكان باراً بوالديه، وأما الثاني فكان محسناً لأجيره، وأما الثالث فكان عافاً عن الحرام وقد تيسر له، فاستجاب لهم ربهم، وأنقذهم مما هم فيه، وتدحرجت الصخرة فخرجوا ناجين[1].
(2) المثل:
ويذكر عادة لتوضيح القاعدة أو الفكرة، من ذلك: قوله ﷺ : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر))[2].
كما مثل ﷺ للمجتمع بسفينة تمخر عباب المحيط، يسكن أعلاها الصالحون، وأسفلها الفاسدون، فإذا احتاجوا إلى الماء صعدوا إلى أعلاها، ومدوا دلو إلى البحر ليملؤوه ماء، ((فقالوا: هلا خرقنا في أسفل السفينة خرقاً نأخذ منه الماء! فعلم بذلك من أعلاها من الصالحين، فإن تركوهم يخرقون السفينة هلكوا جميعاً وإن منعوهم نجوا جميعاً))[3].
فالمجتمع لا يسلم ولا يسعد إلا إذا أخذ القوي بيد الضعيف فأعانه، والعالم بيد الجاهل فعلمه، والغني بيد الفقير فأكرمه وكفاه، والكبير بيد الصغير فوجهه نحو الخير وهداه.
وفي الحديث الشريف: ((لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على أيدي المسيء ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم))[4].
(3) الحركة بالوجه أو باليد أو بـ… ليدرك الناظر المغزى والمراد:
من ذلك قوله ﷺ : ((ويلٌ للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح من سد يأجوج ومأجوج هكذا)) وأشار بإصبعيه الإبهام والموحدة وحلق بينهما[5].
وفي ذلك تنبيه للعرب أن يستقيموا، ويتناصحوا، ويتحدوا، ويتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان؛ ليحميهم الله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وإلا أصابهم شرها وإن صلوا وإن صاموا…
وكان فيهم صالحون، فقال له رجل: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟!
قال: ((نعم إذا كثر الخبث))[6].
وفي القرآن الكريم: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: ٢٥)
وفي رواية: ((أفلح من كف يده ولسانه)).[7]
فهل من مدّكر؟!
(4) الرسم:
وهي وسيلة تساعد كثيراً على الفهم، ولاسيما لدى الأمي. والعرب كانت في مطلع الإسلام أمةً أميّة؛ ولذا فقد استخدم الرسول ﷺ الرسم وسيلة لتعليمهم وتوجيههم.
من ذلك أنه رسم خطاً مستقيماً على الرمل، ورسم خطوطاً منكسرة، ومعوجة ومنحنية، ثم تلا قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: ١٥٣]
كما رسم لهم مربعاً على الرمل، ورسم فيه خطاً صغيراً، وقال لهم: ((هذا هو الإنسان، وهذا أجله يحيط به)) ثم رسم خطوطاً متجهة نحو هذا الإنسان، وقال: ((هي المصائب تنزل به)). ثم رسم خطاً طويلاً متجهاً من الإنسان، مخترقاً المربع، ذاهباً إلى بعيد بعيد، قال: ((هذا أمل الإنسان)) ما أطوله! ثم أخبرهم بأن أجل الإنسان يقطع أمله قبل أن يتحقق جميعه[8].
ولله درّ من قال:
يا من بدنياه اشتغل وغرَّه طول الأمل
ولم يزل في غفلة حتى دنا منه الأجل
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل
والرسول ﷺ يريد منا أن نكون ذوي أمل، شريطة ألا يمنعنا الأمل من صالح القول والعمل.
وفي القرآن الكريم: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: ١٠٢] أي: ليحرص كل منكم على الاستقامة الدائمة، فإذا جاءه الموت بغتة ذهب إلى ربه راضياً، مرضياً.
(5) لفت النظر:
وذلك بذكر عبارة تسترعي الانتباه، والاستفسار عنها لغرابتها، ثم تشرح بعد السؤال، فترسخ الفكرة في الذهن؛ لتتحول إلى سلوك قويم على الصراط المستقيم.
من ذلك قوله ﷺ : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) فعجبوا، وتساءلوا: كيف ننصر الظالم، ومن واجبنا أن نحاربه ونحارب الظلم معاً؟
فقال لهم: ((تردعه- تمنعه- عن ظلمه فإن ذلك نصرٌ له))[9].
أي: فإذا منعته عن ظلمه امتنع، وهجر الظلم إلى العدل فاستقام، فقد أنقذته من عقاب الله في الدنيا والآخرة، حيث يكون الظلم ظلمات على صاحبه. وأي نصر أعظم من أن تنقذ الإنسان من جهنم وبئس المصير، ليكون من أهل العدل والحق، فيستحق النعيم المقيم في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟!
ومنه قوله ﷺ : ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)). فعجبوا وسألوا: هذا القاتل- أي: يستحق النار- فما بال المقتول؟
فقال: ((إنه كان حريصاً على قتل صاحبه))[10] فعوقب على نيته السيئة. وإنما الأعمال بالنيات.
(6) التكرار:
وقديماً قالوا: التكرار يؤثر في الحجار، ولا شك أن للتكرار أثراً في النفوس يشعرها [اهمية الأمر او الفكر، ويدعوها للانتباه والتنفيذ.
من ذلك قوله ﷺ : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))
قالوا: من يا رسول الله! خاب وخسر.
قال: ((من لا يأمن جاره بواثقه))[11]. أي: أذاه وضرره.
ومنها قوله: ((رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر ولم يدخلاه الجنة))[12]. أي: ذّل، وضل، وخاب، وخسر من أدرك أبويه كبيرين، ولم يحسن إليهما، وبهما، ولهما.
(7) التنفير:
وذلك بتصوير الشيء المنهي عنه صورة مقززة، مقرفة، تجعل سامعها يكرهها، وينفر منها، فيتجنب ما نهي عنه.
من ذلك قوله ﷺ : ((لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الوالد على والده، والراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه))[13].
وواضح أن الرسول ﷺ أفاد هذه الوسيلة من القرآن الكريم، حيث شبه الله تعالى من يغتاب غيره بسوء بمن يأكل لحم أخيه ميتاً: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) {الحجرات: ١٢}.
(8) اللهجة المناسبة، والصوت المناسب، والهيئة المناسبة:
فقد توسط أسامة بن زيد- رضي الله عنه- لدى الرسول ﷺ بشفاعة ليعفو عن السارقة المخزومية، وقد توفرت شروط السرقة فيها، وأراد الرسول ﷺ إقامة الحد عليها، فظهر التأثير والغضب في وجه رسول الله ﷺ وصوته، فرفعه قليلاً قائلا: ((أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟!))[14]. وقد أحمر وجهه ﷺ ، ولم يكن يغضب إلا لوجه الله،أو إذا انتهكت حرمات الله.
ولا شك أن احمرار وجهه، ورفع صوته أمام أسامة سيشعر أسامة- رضي الله عنه- أن شفاعته غير جائزة، وان الرسول ﷺ غير راضٍ عنها، وأن عليه ألا يعود لمثلها، فلا بد من إقامة الحد على تلك السارقة.
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) {البقرة: ١٧٩}
(9) مراعاة لغة السامع ولهجته:
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) {إبراهيم: ٤}
فكان ﷺ إذا جاءه غير قرشي يسأله خاطبه بلهجته ليفهم كلامه، فمنهم من كان يستبدل بالكاف شيناً كأهل اليمن، ومنهم من كان يستبدل (بأل) التعريف (أمْ) كأهل حمير، وهكذا… فكأن كل عربي يسمع جواباً يوافق لهجته، وطريقة لفظه ونطقه، فلا لبس، ولا غموض، ولا حيرة، فيتحقق المقصود، ويرجع كل منهم إلى بلده فاهماً، راشداً، مرشداً.
(10) استخدام الفعل الماضي لما سيقع في المستقبل تأكيداً لوقوعه:
كقوله ﷺ : ((دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[15].
أي: سيدب إليكم داءُ الحسد والبغضاء، وقد وقع بعد ذلك.
وهذا مستفادٌ من القرآن الكريم الذي استخدم الفعل الماضي لما سيقع في المستقبل البعيد، ففي سورة إبراهيم الآية (21):
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) وهو مما سيقع يوم القيامة، فاستخدم له الفعل الماضي تأكيداً لوقوعه.
[1] رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3465) ومسلم في الذكر والدعاء (2743)
[2] رواه أحمد (4/270) والبخاري في الأدب (6011) ومسلم في البر (2586).
[3] رواه أحمد (4/269) والبخاري في الشركة (2439).
[4] رواه أبو داود فِي المَلاحِمِ (4336) من حديث ابن مسعود
[5]رواه أحمد (6/428) والبخاري في الأنبياء (3346) ومسلم في الفتن (2280) (2)
[6] انظر: تخريج الحديث السابق.
[7] رواه أحمد (2/441) وأبو داود في الفتن (4249)
((كف يده)): أي: عن القتال.
((كف لسانه)): أي: عن الكلام في الفتن لشدة الخطر في ذلك.
[8] رواه أحمد (1/385) والبخاري في الرقاق (6417) والترمذي في صفة القيامة (2454) وابن ماجه في الزهد (4231)
[9] رواه أحمد (3/201) والبخاري في المظالم (2443و 2444) والترمذي في الفتن (2255)
[10] رواه أحمد (5/43 و51) والبخاري في الإيمان (31) ومسلم في الفتن (2888) (15)
[11] رواه أحمد (1/387) والبخاري في الأدب (6016) ومسلم في الإيمان (46)
[12] رواه أحمد (2/346) ومسلم في البر (2551)
[13] رواه أحمد (2/27) وأبو داود في البيوع والإجارات (3539) والترمذي في البيوع (1299) والنسائي (6/265) وابن ماجه في الهبات (2377)
[14] رواه البخاري في أحاديث الأنبياء(3475)ومسلم في الحدود (1688)
[15] رواه أحمد (1/165 و167) والترمذي في صفة القيامة (2510).