هذه الآية: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}الأنعام:119. تدل على أصل عظيم وقاعدة من قواعد الشرع الكلية إذ تدل بمفهومها على أن ما لم يذكر تحريمه فهو حلال قال شيخ الإسلام: (والتفصيل التبيين، فبين أنه بين المحرمات، فما لم يبين تحريمه فليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، إذ ليس إلا حلال أو حرام)([1]). ولهذا استدل بهذه الآية على قاعدة ” الأصل في الأشياء الإباحة”. تلك القاعدة المقاصدية الأصولية الفقهية الكلية.
وقد وردت تلك القاعدة في كتب الصول والفقه يصيغ منها: “الأصل في الأشياء الحل”، أو “الأشياء على الإباحة حتى يرد الشرع بالمنع منها “، ووردت بصيغة: ” أصل الأمور الإباحة حتى يثبت الحظر بما لا معارض له ” و ” الأشياء على الإباحة قبل ورود الشرع وبعد وروده”. وهكذا مما يدل على أهميتها وشمولها، فالأشياء في القاعدة تشمل الأعيان والأفعال كما قال شيخ الإسلام في المسودة عند تحرير مسألة حكم الأشياء قبل ورود الشرع قال: ( وهذا يقتضي أن المسألة تعم الأعيان والأفعال)([2]).
والأعيان تشمل كل الذوات المنتفع بها من النبات والجماد والحيوان. ووصف الأعيان بالإباحة جائز على سبيل الحقيقة كما توصف بالطهارة والخبث وغير ذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. وقيل إنما توصف بذلك مجازا لتعلق الإباحة بفعل المكلف لا بعين الذات ([3]).
والأفعال تشمل ما كان اختياريا للمكلف صادرا عن قدرة منه وإرادة، وهي تشمل كافة التصرفات التي يقوم بها المكلف، سواء تعلقت بذاته أو بأفعال الآخرين .([4])
فالقاعدة تشمل كل ذلك قال أبو محمد بن حزم في الإحكام: ” وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }، فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في لأرض جميعا}.([5])
والمقصود بالإباحة نفي الحرج الذي دلت عليه عمومات الوحي وتتعلق بحكم الأعيان والأفعال قبل ورود الشرع، أو بعده إذا كانت من قبيل المسكوت عنه، لا من قبيل المنصوص على الإذن فيه.
والعمل بهذه القاعدة الكلية جار عند الشافعية، وأكثر الحنفية، وبعض المالكية وبعض الحنابلة، وأومأ إليه الإمام أحمد، ونسبه البعض إلى الجمهور([6]). والذين قالوا بالتوقف، أو التفريق بين المنافع والمضار ([7])، يؤول قولهم جميعا إلى الحكم بمقتضى هذه القاعدة، وهو نفي الحرج، لأن التوقف يقتضي عدم الحكم عليها بحظر أو إباحة قبل ورود الدليل الشرعي بذلك، ونتيجة هذا القول: أنه لا حرج في الفعل ولا في الترك وهو بمعنى الإباحة، ولذا قال الجويني في البرهان: (وأما أصحاب الإباحة فلا خلاف على الحقيقة بيننا وبينهم فإنهم لم يعنوا بالإباحة ورود خبر عنها وإنما أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك والأمر على ما ذكروه)([8]).
لكنهم ربما تحاشوا التعبير بالإباحة، على اعتبار كونها حكما شرعيا لابد أن يبنى الحكم به على دليل، وقد أشار إلى هذا المعنى عدد من الأصوليين، قال الغزالي في المستصفى: (وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه، فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ، فإن فعل البهيمة والصبي لا يوصف بكونه مباحا وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج…إلى قوله .. فإن استجرأ مستجرئ على إطلاق اسم المباح على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى، وإن كان لفظه مستكرها)([9]).
والحقيقة أن الإباحة إباحتان: إباحة ثابتة بدليل شرعي يقتضي التخيير بين فعل الشيء وتركه كقوله r حين سئل عن الوضوء من لحوم الغنم: “إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ” ([10]).
فسوى بين الفعل والترك وهذه داخلة في مفهوم الحكم الشرعي بلا خلاف، والإباحة الثانية هي المأخوذة من البراءة الأصلية لعدم الناقل عنها، فيستصحب حكمها وهو الإباحة كما تدل على ذلك القاعدة، وبعضهم يسميها الإباحة العقلية كما قال العلوي الشنقيطي في مراقيه:
وما من البراءة الأصلية قد أخذت فليست الشرعية
ويفرقون بين الإباحتين بأن الدليل الناقل عن حكم الإباحة المنصوص عليها بالتخيير ونحوه يسمى ناسخا، بينما الدليل الناقل عن حكم البراءة الأصلية أو العدم الأصلي لا يسمى ناسخا.
وأما القول بالتفريق بين ما كان نافعا فيباح وما كان ضارا فيحرم فإنه أيضا يؤول إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة إذ المقصود بالأشياء في القاعدة : الأشياء النافعة، وما لم يرد ما يمنع منه، وما كان ضارا ليس كذلك، إذ هو منهي عنه شرعا وتأباه الفطر السليمة ([11]).
قال الشيخ عبد الله صالح الفوزان:
(المراد بالأعيان: الذوات، ولها ثلاث حالات:
- ما فيه ضرر محض، ولا نفع فيه البتة؛ كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
- ما فيه ضرر من جهة ونفع من جهة، والضرر أرجح أو مساوٍ، وهذان محرمان؛ لحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)).
- ما فيه نفع محض ولا ضرر فيه أصلاً، أو فيه ضرر خفيف، وهذا هو الذي فيه الكلام)([12]).
[1]– مجموع الفتاوى، ج21ص536.
[2]– مسودة أصول الفقه لشيخ الإسلام. ص 486.
[3] – العدة للقاضي أبي يعلى. ج4ص1261..
[4]– إعلام الموقعين ج 2 ص387.
[5] – الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6/3.
[6]– الأشباه والنظائر للسيوطي ص60.
[7]– المحصول ج2 ص131.
[8]– البرهان في أصول الفقه.ج1 ص 14.
[9]– المستصفى للغزالي 1/51.
[10]– الحديث أخرجه مسلم في صحيحه رقم 360.
[11]– شرح النووي على صحيح مسلم، ج9ص101.
[12]– تيسير الوصول إلى قواعد الأصول ومعاقد الفصول، لعبد المؤمن البغدادي، ص51.