وردت الآية الكريمة في سورة هود، ضمن سياق نجاتِ النبي لوط ومن آمن معه من قومه، حين أوصاه الملائكة: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾

قالت الملائكة: يا لوط إنَّا رسل ربك أَرْسَلَنا لإهلاك قومك، وإنهم لن يصلوا إليك، فاخرج من هذه القرية أنت وأهلك ببقية من الليل، ولا يلتفت منكم أحد وراءه؛ لئلا يرى العذاب فيصيبه، لكنَّ امرأتك التي خانتك بالكفر والنفاق سيصيبها ما أصاب قومك من الهلاك، إن موعد هلاكهم الصبح، وهو موعد قريب الحلول.

لا تلتفت فليس للقرابة عند الله نفعٌ ما تباينَ الدين، لا تلتفت فلا يأمنن من سعى لتشويه سمعتك أن يأتيه عقاب الله في وقت دعته، وفي زمن تكثر فيه الأصوات التي تجرك الى الخلف، لا تلتف للمحبطين ولقول الفاشلين في القاع. لأن المضيّ هو طوق النجاة.

  وبين التحرر والنجاة من زاوية علم النفس، تشير الأبحاث إلى أن التعلق بالماضي – سواء في صورة ندم، أو شعور بالذنب، أو حنين مرضي – يؤدي إلى اضطرابات في الصحة النفسية كالاكتئاب والقلق.

حين يقال لك “لا تلتفت”، فالمقصود: لا تسمح لماضٍ مؤلم أن يسكن حاضرك. الانفصال النفسي عن لحظة الأذى هو أول خطوات الشفاء. “

كم من الناس فشلوا في بناء علاقة جديدة لأنهم ظلوا يلتفتون لعلاقة قديمة؟ وكم من طالب ضيّع حاضره العلمي لأنه بقي أسير تجربة رسوب؟ وكم من وطنٍ تأخر عن النهوض لأنه ظل يلتفت لصراعاته القديمة؟

كم من الأفراد يعيشون اليوم أُسارى لخيبات الحب، أو خيانات الأصدقاء، أو مرارات الطفولة؟! إن الالتفات هنا يتخذ شكلًا نفسيًا عميقًا، لا يكاد يُرى، لكنه يعوق النمو. في العلاقات، “ولا تلتفت” لا تعني القسوة، بل الحكمة. أن تغفر، لكن تمضي. أن تتعلّم، لكن لا تسكن الجراح، لا تسكن الماضي ولا تحلم بالمستقبل، بل عش الحاضر.

في التربية، يواجه الأبناء كثيرًا من التردد إذا لم يُربَّوا على ثقافة المضيّ. “ولا تلتفت” يجب أن تكون جزءًا من بناء الثقة بالنفس. علّم ابنك أن الخطأ لا يعني النهاية، وأن الماضي ليس لعنة بل درس.

عندما تتوقف عن الالتفات، لا يعني أنك تتجاهل الماضي، بل يعني أنك تُعيد تموضعك النفسي تجاهه. تُقرّ بأنه كان، ثم تمضي.

إنّ من جمال “ولا تلتفت” أنها تزرع الأمل، وتُقدّم وعدًا ضمنيًا بأن القادم خير، ما دمت تسير حيث أمرك الله

ولا تلتفت” تُصبح أكثر إلحاحًا في عصرنا، حيث وسائل التواصل تُذكّرك بكل ما مرّ. الصور، الذكريات، التنبيهات الزمنية التي تعيد بث الماضي يومًا بعد يوم. نحن نعيش في زمن الالتفات القسري.

لكن المجتمعات التي لا تلتفت هي التي تتجاوز أزماتها وتعيد البناء. اليابان، بعد القنبلتين النوويتين، قررت ألّا تلتفت للدمار، بل تبدأ من الصفر، فصارت إحدى أعظم الدول الصناعية. ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية اختارت المضي، لا الغرق في الحطام.

أما المجتمعات التي ظلت تلتفت، فقد بقِيَت أسيرة جراحها، ومكانك سر. ولذلك، فإن “ولا تلتفت” اليوم يجب أن تكون سياسة اجتماعية، لا مجرد توجيه ديني.

وفي سيرة النبي محمد ، عندما خرج من مكة مهاجرًا، لم يلتفت رغم شدة الحنين، وقال: “والله إنك لأحب البلاد إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت”. لكن المضيّ إلى المدينة كان بناء لحضارة. أما الالتفات لمكة وقتها، فكان انكسارًا للرسالة. ولا تلتفت هي حكمة روحية، ودواء وجداني، ومنهج حياة.

الالتفات، في معناه العميق، هو تكرار النقد الذاتي بشكل مَرَضي. بعض الناس، كلما أرادوا أن يبدؤوا مشروعًا جديدًا أو حياةً جديدة، تذكّروا فشلًا قديمًا أو تعليقًا سلبيًا. وهنا تكون “ولا تلتفت” دواءً للتردد المفرط.

وفي لحظات التحوّل، وحين تتقاطع الأقدار مع قرارات الإنسان، يبرز أمرٌ إلهي غاية البلاغة والعمق. “ولا تلتفت” ليس مجرد توجيه لسلوك عابر، بل وصيّة وجودية، تتجاوز حادثة قوم لوط، لتصير
وها نحن اليوم، كل منا يحمل قصته الخاصة، وكل منا في لحظة ما بحاجة إلى أن يسمع هذا الصوت “ولا تلتفت”… لا للجرح، لا للماضي، لا لمن خذلك، لا لما لم يكن معك. سر إلى حيث النور حيث تستحق، إلى حيث تُصبح أنت.

من آثر الله، لم يلتفت إلى الوراء، ولو اجتمعت عليه الدنيا كلها. لوط مضى ونجا، وإبراهيم ترك قومه لله، عزيز مصر خرج من السجن للعرش لأنه لم يلتفت للظلم، موسى شق البحر دون أن يلتفت. كل هؤلاء نجوا لأنهم مضوا حيث أمروا لا حيث اعتادوا.

ولا تلتفت”… جملة موجزة، لكنها مفتاح لشفاء أرواحنا، وتحرر ذواتنا، وارتقاء مجتمعاتنا. إنها وصية من السماء، لا تخاطب نبيًا فقط، بل كل إنسان يقف على مفترق طرق، تائهًا بين وجع قديم، وخطوة مجهولة.

رجل وطفلان يمشون في درب محاطة بأشجار ملونة خلال فصل الخريف، مع منزل أصفر في الخلفية. الأوراق تتساقط على الأرض، مما يخلق مشهداً دافئاً وهادئاً.

هذه الآية ليست في المصحف فقط، بل هي معنا في قراراتنا، في علاقاتنا، وفي لحظات التردد، وفي خطواتنا نحو النور.  فكما قالت العرب ” الملتفت لا يصل”
فلا تلتفت، وامضِ حيث تؤمر… هناك، ينتظرك ما تستحق

تنزيل PDF