هذه الآية الكريمة: ولسوف يعطيك ربك فترضى، من النصوص التي جاءت لتشريف منزلة النبي ﷺ عند الله تعالى في القرآن المجيد، فإنها – على اختلاف واضح في أقوال المفسرين في توجيه الآية – تعلي شأن النبي ﷺ بالوعد الذي قطعه الله على نفسه في إغداقه بالنعم والعطايا والمنن الإلهية لغاية إرضائه، فهذا العطاء مطلق ويشمل كل خير طلبه الرسول ﷺ في أمر الدنيا والدين والدار الآخرة، لنفسه ولأمته.
ولا أدل على ذلك من إضافة الفاعل في قوله {يعطيك ربك} إلى ضمير المخاطب، فكأن هذا العطاء خصص بالرسول لا يشاركه فيه أحد، وأخفي المفعول الثاني ليكون شاملا لجميع ما يريده ويتمناه الرسول ﷺ كيف لا؟! وصاحب الوعد هو الله تعالى، وهو أقدر على جميع الكائنات، والمعطي الحقيقي في هذا الموضع وفي غيره هو الخالق الذي لا يخلف الميعاد، وفي هذه الإضافة جميل العناية وكمال اللطف من الله تعالى للرسول ﷺ.
يقول الرازي: «كيف يقول الله: ولسوف يعطيك ربك فترضى؟ الجواب: هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه، لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا، فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات.» «تفسير الرازي» (31/ 195).
إن الظاهر من البشارات التي زفت إلى الرسول ﷺ في هذه السورة الكريمة، وفي هذه الآية على وجه الخصوص أنها عطاء المولى سبحانه لنبيه من أجل إرضائه وإعلاء شأنه، وصرف عنايته إليه، ويشمل خيرات الدنيا والآخرة معا، يقول في الشفا: وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة، وأنواع السعادة، وشتات الإنعام في الدارين والزيادة.
ولا أجد شيئا أصرح تعريفا بهذه الآية وما قبلها مثل ما قال العلامة السعدي: «{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى} أي: كل حالة متأخرة من أحوالك، فإن لها الفضل على الحالة السابقة. فلم يزل ﷺ يصعد في درج المعالي، ويمكن له الله دينه، وينصره على أعدائه، ويسدد له أحواله، حتى مات، وقد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون والآخرون، من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب.
ثم بعد ذلك، لا تسأل عن حاله في الآخرة، من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام، ولهذا قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وهذا أمر لا يمكن التعبير عنه بغير هذه العبارة الجامعة الشاملة.» [تفسير السعدي (ص928)].
أقوال المفسرين في نوع العطاء
وأغلب المفسرين اختاروا عموم هذه العطايا خيرات الدنيا والدين، وكل واحد منهم وجه تأويل الآية حسب ما يراه مناسبا.
أ – الرازي: يرى اتصال الآية التي تقدمت {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى} بقوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى، إشارة توجه عموم العطايا التي وعدها الله النبي خيري الدارين من وجهين:
الأول: هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة: خير له من الأولى ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد يكون فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه.
الوجه الثاني: كأنه تعالى لما قال: وللآخرة خير لك من الأولى [الضحى: 4]، فقيل: ولم قلت إن الأمر كذلك، فقال: لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى. [«تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير» (31/ 194)].
ب – البيضاوي: وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه.
جـ – الخازن وابن جزي المالكي: وحمل الآية على ظاهرها من خيري الدّنيا والآخرة معا أولى، وذلك أن الله تعالى أعطاه في الدّنيا النصر الظفر على الأعداء وكثرة الأتباع، والفتوح في زمنه، وبعده إلى يوم القيامة وأعلى دينه وإن أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشّفاعة العامة، والخاصة، والمقام المحمود وغير ذلك. [«تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل» (4/ 438)].
د – ابن عاشور: «وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبيء ﷺ من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا وما فتح على الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أقطار الأرض شرقا وغربا.» [«التحرير والتنوير» (30/ 398)].
هـ- وذهب آخرون منهم ابن كثير والسعدي وغيرهم إلى أن هذا الوعد بالعطاء محمول على الخيرات الحسان التي يحظى بها النبي ﷺ في الدار الآخرة، وهذا محتمل لا سيما لو فسرت الآية في إطار ما سبقها، وهي تشير إلى الخيرات والفضائل التي سيطفر بها النبي ﷺ في الدار الآخرة.
ما أعطي الرسول ﷺ في الآخرة
وقد أجزل الله لنبيه في العطاء في مواطن كثيرة خلال مسيرة حياة النبي ﷺ في الدنيا ويتجلى ذلك في بعض الخصائص التي من الله بها على النبي وفضله بها على سائر الأنبياء، وأشرنا إلى جملة من ذلك في الأقوال السابقة.
جاء في أضواء البيان: من أعظم ما أعطي النبي ﷺ في الآخرة: المقام المحمود، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [17/79] .
وجاء في السنة بيان المقام المحمود، وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي، ويقول: «نفسي نفسي، حتى يصلوا إلى النبي – ﷺ – فيقول: أنا لها أنا لها» إلخ.
ومنها: الحوض المورود، وما خصت به أمته غرا محجلين، يردون عليه الحوض.
– الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما في الحديث: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو» .
– الشفاعة في دخول الجنة، كما في الحديث: «أنه – ﷺ – أول من تفتح له الجنة، وأن رضوان خازن الجنة يقول له: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك» .
–الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار، كما في الحديث: «لا أرضى وأحد من أمتي في النار» أسأل الله أن يرزقنا شفاعته، ويوردنا حوضه. آمين.
وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب، فيخفف عنه بها ما كان فيه.
– شهادته على الرسل، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم. [«أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (8/ 559 ط الفكر)].
وهذا البيان يجيب على احدي الشبهات التي تثيرها بعض الفئات غير المسلمة وتزعم أن النبي ﷺ لا يعرف مصيره في الآخرة، فإن عصمة النبي ﷺكما هي مضمونة في الدنيا من الخطايا والرزايا، فإن عطايا الله له في الآخرة تغمره وتعلي شأنه حتى يشفع في الخلائق في عرصات القيامة.