يسترعي الانتباه في تاريخ المعرفة الإسلامية أن عددًا وافرًا من المصنفين ومؤسسي العلوم والفنون ينتمون إلى الأطراف الإسلامية وليسوا من أهل الجزيرة العربية وما حولها، وهذا يؤشر أن المركز لم يمارس هيمنة وسطوة ثقافية وهو ما سمح بتعدد المراكز الثقافية في العالم الإسلامي واصطباغ الإنتاج المعرفي بطابع التنوع الفكري والمناطقي، وفيما يلي أعرض لأحد المصنفات التي أنتجت خارج الدائرة العربية وأسهمت في تشكيل العقل المسلم وهو كتاب “حجة الله البالغة” للإمام المحدث الهندي شاه ولي الله الدهلوي (1114-1167ه/1703-1762م).

السيرة الذاتية والآثار المعرفية

ولد أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الملقب ب”شاه ولي الله” في مدينة دلهي الهندية لأسرة معروفة بالعلم والصلاح، كان والده فقيها راسخا أسهم في تدوين “الفتاوى العالمكيرية” والتي اشتهرت باسم الفتاوى الهندية، وأسس المدرسة الرحيمية لتدريس العلوم الشرعية، وقد وضع ولي الله الدهلوي رسالةً وجيزةً تتحدث عن سيرته الذاتية والعلمية، أسماها «الجزء اللطيف في ترجمة العبد الضعيف» ذكر بها ما نصه :

“في الخامس من العمر أرسلوني إلى الكتَّاب، وأمر الوالد بإقامة الصلاة والصوم وأنا ابن سبع وتم اختتاني في السنة نفسها، وكذلك أنهيت القرآن الكريم لأبدأ الكتب الفارسية، حتى قرأت كتاب «شرح الملا جامي» وأنا ابن عشر سنين، وتمكنت من مطالعة الكتب ودراستها، وتزوجت في الرابع عشر من عمري، وبايعت على يد الوالد في الخامس عشر، واشتغلت بأشغال المشايخ الصوفية وخاصة النقشبندية، وقرأت في نفس السنة جزءاً من كتاب «البيضاوي» فكأني أنهيت بذلك المنهج الدراسي السائد في هذه البلاد وأجازني الوالد بالتدريس”[1].

وتابع ولي الله الدهلوي تحصيله العلمي فقرأ تفسير البيضاوي وتفسير المدارك، وصحيح البخاري وشمائل الترمذي، والهداية والوقاية في الفقه، وهذا التكوين المتين ساعده في أن يرتقي سلك التدريس بالمدرسة الرحيمية في السابعة عشر من عمره حين توفي والده، ومكث بها اثني عشر عاما حتى ارتحل إلى الحرمين عام 1143ه ومكث بها عامين وتتلمذ على يد مشايخها وأسند الحديث عنهم.

وقد تركزت جهود الإمام الدهلوي الإصلاحية حول النقاط التالية:

– نشر الحديث النبوي الشريف بالهند، اعتنى الإمام بالحديث عناية كبرى لشيوع البدع والمحدثات في وقته، وهيمنة رجال التصوف البدعي على الساحة الدينية، وهو ما أفضى إلى إهمال العلوم الحديثية، وقد تجلى أولا في تدريس الحديث بالمدرسة الرحيمية، ووضع عدة مصنفات حديثية جلها حول موطأ الإمام مالك الذي اعتبره الدهلوي أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى[2].

– الوصل بين الفقه والحديث، وحفزه لذلك ما رآه من اتخاذ الناس للحديث هجرًا مهجورًا وترجيحهم أقوال الفقهاء على الحديث، ومن خلال مصنفاته سعى الإمام إلى جعل الحديث في صدارة العلوم الدينية والوصل بينه وبين العلوم الدينية الأخرى، وبالإمكان القول أن الوصل أو التوفيق يعد عنوانا لجهوده المعرفية كلها فقد آمن بالتوفيق بين التصوف والشريعة، والاجتهاد والتقليد، والعقل والنقل.

– الاعتناء بالتعليم الإسلامي، انتقد الدهلوي مظاهر الخلل التعليمي في كتابه “التفهيمات الإلهية” التي تبدت في التوجه نحو دراسة علوم اليونان الفلسفية، وتقديم علوم النحو والصرف والمعاني على علوم الشريعة، ولأجل هذا صاغ مناهج التعليم بالمدرسة الرحيمية وافترض أن النشء المسلم ينبغي أن يدرس أولا علوم العربية من نحو وصرف ومعاني ثم التاريخ والحكمة ثم الحديث الشريف ثم علوم الشريعة، على ألا يزيد في كل منها عن ثلاثة أو أربعة كتب فإن أتمها انتقل إلى ما بعدها[3].

وقد خلف الإمام الدهلوي عدد كبيرا من المصنفات تربو عن الخمسين مصنفا في العلوم الدينية المختلفة، ومن مؤلفاته الحديثية: (المسوى) و(المصفى) وهما شرحين لموطأ مالك الأول بالفارسية والآخر بالعربية، و(تراجم أبواب البخاري)، ومن مؤلفاته في التفسير (فتح الرحمن) وفيه قام بترجمة القرآن إلى الفارسية على شاكلة النظم العربي، ومن مؤلفاته الفقهية والأصولية: (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد)، و(الإنصاف في أسباب الاختلاف) وهو رسالة قصيرة ناقش فيها اختلافات الفقهاء وكيفية الترجيح بين الآراء الفقهية المختلفة، ومن مؤلفاته الصوفية: ألطاف القدس وفيوض الحرمين،  ومن مؤلفاته في أصول الشريعة وأسرارها (حجة الله البالغة) وهو أنفس مؤلفاته وأكثرها ذيوعا وقد ترجم إلى بضع لغات منها الإنجليزية والفارسية.

حجة الله البالغة والوصل بين المعقول والمنقول

وهو كتاب فريد في بابه لم يسبق لأحدهم التصنيف فيه يدور حول كيفية استنباط علل التشريع والمصالح الكامنة وراء التكليف، وهو ينطلق من فرضية رئيسة هي أن الأحكام الشرعية متضمنة مصالح للبشر، وأن التكاليف ليست كما يُظن مجرد اختبار من الله للعبد فإن أطاع كوفئ بالجنة وإن عصى عوقب بالنار، وقد سعى الدهلوي للبرهنة على صحة افتراضه طيلة فصول الكتاب، وفند حجج المخالفين الذين استندوا إلى عدم التفات السلف بتعليل الأحكام وأنه لا يتوقف على معرفتها الامتثال لأمر الشارع.

وربما فُهم من ذلك أن الإمام يسعى إلى مقاربة الشريعة بالعقل وتقديمه على النص كما ذهب المعتزلة، لكنه لم ينح إلى ذلك وصرح بأنه “يُشترط له -أي علم تعليل الأحكام- ما يشترط في كتاب الله تعالى، ويحرُم الخوض فيه بالرأي الخالص غير المستند إلى الآثار والسنن”[4] وأضاف ” وليس الأمر على ما ظُن من أن حسن الأعمال وقبحها .. عقليان من كل وجه، وأن الشرع وظيفته الإخبار عن خواص الأعمال دون إنشاء الإيجاب والتحريم”[5].

وإزاء ذلك جعل الدهلوي كتابه في قسمين كبيرين اختص الأول بالقواعد الكلية التي تنتظم بها المصالح المرعية في الشرائع، وفيه يذهب إلى أن أسرار الشرائع ترجع إلى أصلين: مبحث البر والإثم ومبحث السياسات الملية، وتناول فيه أسباب التكليف والمجازاة وكيفية المجازاة بعد الممات، وسبل استنباط ما أسماه “الارتفاقات” أي التدابير النافعة والمنافع المقررة، واستباط الشرائع من حديث النبي صلوات الله عليه.

أما القسم الثاني المعنون “في بيان ما جاء عن النبي تفصيلا” فقد بحث خلاله حكمة التشريع في العبادات كلها، والمقامات والأحوال، والخلافة والقضاء، والجهاد، ومن خلال بحثه هذا ظهر تمايز منهج الدهلوي مع الفقه الإسلامي عن الفقهاء التقليديين الذين خلفوا ورائهم موسوعات فقهية ضخمة لكنهم قدموا الفقه جسدا بلا روح، أما الدهلوي فقد استطاع أن يقدم في كتابه روح الفقه وأبان عن أسراره وفلسفته، ورفع عنه عبء الخلافات التي أثقلت كاهله في شكليات الفروع وتوافه الأمور.

وفي هذا الكتاب تتمثل مظاهر الاجتهاد لدى الإمام الدهلوي ومنها

– ترتيبه العلوم الشرعية ترتيبا لم يتبع فيه من سبقه من العلماء، وصنفها على مراتب، أولها علم معرفة الأحاديث صحة وضعفا، وثانيها علم المعاني وضبط مشكلها من علوم العربية، وثالثها علم استنباط الأحكام الشرعية والاستدلال والقياس، وأخيرا علم أسرار الدين الذي يبحث عن علل الأحكام وخواص الأعمال وأسرارها، وهو “أدق الفنون الحديثية بأسرها عندي وأعمقها محتدا وأرفعها منارا”.

– قيامه بصك مصطلحات غير معهودة تنسب لها، ومنها مصطلح الارتفاقات أي “الانتفاعات العمومية” والذي نظن أن أحدا لم يستخدمه قبلا.

– خروجه المتكرر على المذهب الحنفي الذي يتقلده، وحجته أن أولئك الباحثين بالتخريج والاستنباط من كلام الأوائل في المذهب الحنفي وغيره من المذاهب لا يجب علينا أن نوافقهم في كل ما يذهبون إليه، ونحن رجال وهم رجال والأمر بيننا سجال.

المحصلة النهائية هي أن الإمام الدهلوي يعد من أبرز فقهاء القرن الثاني عشر، وكتابه “حجة الله البالغة” يحتل منزلة مرموقة في المكتبة الإسلامية اليوم، ورغم ذلك يفتقد شرحا -باللغة العربية على الأقل- تكافئ منزلته.


[1] سيد محبوب الرضوي الديوبندي ، أثر الشاه ولي الله الدهلوي في العلوم، ديبوند: مجلة الداعي،  رمضان – شوال 1433هـ/  يوليو – سبتمبر 2012م، ع 9-10.

[2] أختر الواسع، شاه ولي الله الدهلوي نابغة الدهر وعبقري الزمان

http://www.nidaulhind.com/2016/08/blog-post_97.html

[3] نفس المرجع السابق.

[4] حجة الله البالغة، ص30.

[5] نفسه.