(وما الحياةُ الدّنيا إلا لَعِبٌ ولهوٌ وللدّارُ الآخرةُ خيرٌ للذينَ يتّقونَ أفلا تَعقلونَ) الأنعام 32.

(وما هذهِ الحياةُ الدنيا إلا لهوٌ ولَعِبٌ وإنّ الدارَ الآخرةَ لَهِيَ الحيوانُ لو كانُوا يَعلمونَ) العنكبوت 64.

 (اعلموا أنّما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموالِ والأولادِ كمَثلِ غَيْثٍ أعجبَ الكفارَ نباتُهُ ثم يَهيجُ فتراهُ مُصْفرًا ثم يكونُ حُطامًا وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ مِنَ اللهِ ورِضوانٌ وما الحياةُ الدنيا إلا مَتاعُ الغُرورِ) الحديد 20.

آيات سهلة الألفاظ دقيقة المعاني!

تقديم وتأخير:

في آية العنكبوت (والأعراف) قدّم اللهو على اللعب، وفي آية الأنعام (وسائر الآيات) قدّم اللعب على اللهو!

لم يظهر لي نكتة في هذا التقديم والتأخير، ولعل الأمرين سواء، والله أعلم.

الحيوان: الحياة. وقد تعني هذه الصيغة: الحياة العظمى. أي الدنيا بالنسبة للآخرة ليست حياة. الآخرة هي الحياة.

الكُفّار: اللفظ فيه تورية، فهو يعني هنا: الزرّاع، ويعني خلاف المؤمنين، في وقت واحد، والله أعلم.

رأى بعض المفسرين، أو اللغويين، أن اللعب واللهو بمعنى واحد، وكرره تأكيدًا. وفرّق آخرون بينهما، فرأى بعضهم أن اللعب عمل يشغل عما ينتفع به إلى ما لا ينتفع به. واللهو: صرف النفس عن الجد إلى الهزل (تفسير أبي حيان 4/ 484).

وبيّن ابن القيم في تفسيره 6/437 أن اللعب للجوارح، واللهو للقلب: (لاهيةً قلوبُهم) الأنبياء 3.

على أن الفقهاء ذهبوا إلى أن اللعب واللهو ليسا مذمومين دائمًا. فهناك ما هو محمود، كالألعاب والمسابقات التي تعين على الجهاد أو على العلم. وهناك ما هو مباح، وما هو مذموم.

وللمفسرين في هذه الآية قولان: قول بأن المقصود هنا هو حياة الكافر، والقول الآخر بأن المقصود عام بحيث يشمل حياة المؤمن والكافر معًا.

إن الإخبار عن الحياة الدنيا بأنها لعب ولهو ليس تفسيره سهلاً، سواء كانت هذه الحياة تخص المؤمن أو المؤمن والكافر معًا. ذلك لأن المؤمن ليست جميع أعماله في الحياة الدنيا من هذا القبيل، ولاسيما على فرض أن اللعب واللهو منه ما هو محمود. كذلك الكافر قد لا تكون حياته كلها من هذا الباب.

لعل المقصود هنا هو عقد مقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة. فالحياة الدنيا تبدو بالنسبة للآخرة أنها لا تعدو أن تكون مجرد لعب ولهو. فالآخرة أفضل (إذا تعلقت بالجنة، وأسوأ إذا تعلقت بالنار)، وأكثر، وأيقن، وأدوم. فخيرات الجنة غير محدودة، وخيرات الدنيا محدودة. قال تعالى: (فما متاع ُالحياةِ الدنيا في الآخرةِ إلا قليلٌ) التوبة 38.

وخيرات الجنة متيقنة، وخيرات الدنيا مظنونة، قابلة للزيادة والنقصان والزوال. والحياة الآخرة خلود، والحياة الدنيا أمرها محدود. والدنيا هزل، والآخرة جدّ. هكذا تبدو الأولى بالنسبة للأخرى. قال تعالى: (إنّ الدارَ الآخرةَ لهيَ الحيوانُ لو كانُوا يَعلمونَ) العنكبوت 64، أي: هي الحياة الحقيقية والجادّة التي يجب أن يسعى إليها الإنسان في الحياة الدنيا. قال تعالى: (وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرورِ) الحديد 20.

وقال أيضًا: (وذرِ الذينَ اتّخذُوا دينَهم لَعِبًا ولهوًا وغرّتهمُ الحياةُ الدنيا) الأنعام 70. فإذا لم يعمرها الإنسان بالجد والعمل والسعي والاستقامة، فلا شك أنه سيصبح نادمًا.

إن الإنسان مفطور بطبيعته على تفضيل العاجل على الآجل. فهو يرى أن: “الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد خير من النسيئة. ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، ولا يُترك اليقين بالشك” (الكشف والتبيين في غرور الخلق للغزالي ص 12). قال تعالى: (كلا بل تُحبّونَ العاجلةَ وتذَرونَ الآخرةَ) القيامة 20. وقال أيضًا: (بل تؤثرونَ الحياةَ الدنيا والآخرةُ خيرٌ وأبقى) الأعلى 16 – 17، أي هي خير نوعًا وكمًا، وأدوم زمنـًا.

ولأجل هذه الفطرة، جعل الله الآخرة أفضل وأدوم، وثقـَّل جزاءها، لتحويل الناس من تفضيل الدنيا إلى تفضيل الآخرة، ولإغرائهم بالسعي في الدنيا للآخرة. قال تعالى: (إنّ هؤلاءِ يُحبّونَ العاجلةَ ويذَرونَ وراءَهم يومًا ثقيلاً) الإنسان 27.

الدنيا لعب ولهو!

هل يعني أن علينا أن نلعب ونلهو في الحياة الدنيا؟

هل علينا أن نحذر من اللعب واللهو في الحياة الدنيا؟

يخطر في البال أن الدنيا ليست دار لعب ولهو، بل هي كما قال العلماء: دار عمل! والآخرة: دار جزاء. لو قيل: الآخرة لعب ولهو لأمكن فهم ذلك، لأنها دار جزاء واستمتاع بالطعام والشراب والجنس (لمن ذهب إلى الجنة طبعًا).

هل هذه مقولة وصفية أم مقولة قيمية؟

هل هي وصف لواقع الناس، لما هم عليه، أم لما يجب أن يكونوا عليه؟

أقوال المفسرين:

– لعب ولهو لقِصَر مدّتها.

– متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، أي: لا عاقبة له.

– متاع قليل، وأجَل قصير.

– أهلُ الحياةِ الدنيا أهلُ لعبٍ ولهو.

– تزول عما قليل، عن قريب.

– غالبُها كذلك.

– معظم ما يحبّ الناس الحياة لأجله هو اللهو واللعب، لأنه هو الأغلب على أعمال الناس في أول العمر، والغالب عليهم بعد ذلك.

– باطل وغرور، لا بقاء لها.

– هذه حياة الكافر.

نقد:

على المفسر أو الباحث أن يذكر تفسيره أو نتائجه، ولكن هذا لا  يكفي، بل لا بد من أن يشعر القارئ أن ما تم التوصل يشفي الغليل، وإلا كان على المفسر أن يبيّن أيضًا درجة رضاه (درجة الثقة) عن هذه التفاسير التي يتناقلها المفسرون بعضهم عن بعض!

تفسير مقترح:

كل شيء تعمله في الدنيا للآخرة فهو جدّ، وكل شيء تفعله في الدنيا وليس للآخرة فهو لعب ولهو، لأن الدار الدنيا بالنسبة للآخرة ليست شيئًا! فعليك أن تأخذ الآخرة في الدنيا على محمل الجدّ.

ما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو إذا لم تعمل فيها لآخرتك! وكلما عملتَ فيها لآخرتك كنتَ أكثر وعيًا وجدية.

ومن شأن الناس عمومًا أن يعملوا للدنيا بجدّ، وللآخرة بغير جدّ.

يعملون للدنيا كثيرًا، وللآخرة قليلاً.

يعملون للدنيا بقوة، وللآخرة بضعف ورخاوة!

كأنهم لا يؤمنون بالآخرة! ولا يدركون ما سيكون فيها.

عندما تصل إلى الآخرة ستتمنى العودة إلى الدنيا لتكون أكثر جدّية في العمل للآخرة.

اعملْ للآخرة كثيرًا، ولا تنسَ نصيبك القليلَ من الدنيا. لا تفعلِ العكس.

آيات أخرى:

– (وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ مِنَ الدنيا) سورة القصص: 77.

– (إنّما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهوٌ) محمد: 36.

– (وذَرِ الذينَ اتخذوا دينَهم لَعِبًا ولهوًا وغرّتهمُ الحياةُ الدنيا) الأنعام: 70.