قال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109]
حينما وصل الإمام ابن عاشور رحمه الله في تفسيره إلى هذه الجملة ذكر أنها “عقبة حيرة للمفسرين في الإبانة عن معناها ونظمها”، وقال: “ولنأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها، ثم نعقبه بأقوال المفسرين.
والذي لاح له “أن الجملة يجوز أن تكون الواو فيها (واو العطف) وأن تكون (واو الحال)”. ثم شرع في بيان الاحتمالين:
فقال عن الاحتمال الأول:
“فأما وجه كونها (واو العطف) فأن تكون معطوفة على جملة: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [التي قبلها]”، لكنها “كلام مستقل، وجهه الله إلى المؤمنين، وليست من القول المأمور به النبي – عليه الصلاة والسلام- بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}”.
وفي المخاطب بـ {يُشْعِرُكُمْ} احتمالان عنده كذلك:
- “الأظهر أنه الرسول- عليه الصلاة والسلام- والمؤمنون، وذلك على قراءة الجمهور قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} – بياء الغيبة-،
- والمخاطب بـ {يُشْعِرُكُمْ} المشركون على قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف {لَا تُؤْمِنُونَ} – بتاء الخطاب -، وتكون جملة {وَما يُشْعِرُكُمْ} من جملة ما أمر الرسول ﷺ أن يقوله في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}.
{وَما} – كما يقول ابن عاشور – “استفهامية مستعملة في التشكيك والإيقاظ؛ لئلا يغرهم قَسم المشركين [أي الذي ذكر في بداية الآية {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ…} ]، ولا تروج عليهم ترهاتهم”،
وعليه؛ “فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التوبيخ ولا التغليظ؛ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليطهم، إذ لم يثبت أن المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أن يجابوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ…} وهي في سورة يونس [96، 97]، وهي نازلة قبل سورة الأنعام، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدين وتلونهم في اختلاق المعاذير؟!”.
إذاً؛ المقصود من الكلام – بناء على تفسير ابن عاشور – “تحقيق ذلك عند المسلمين، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأن الاستفهام من شأنه أن يهيء نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام، فيتأهب لوعي ما يرد بعده”.
ثم بين معنى {يُشْعِرُكُمْ}، فقال: “والإشعار: الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفى ويدق، يقال: (شعر فلان بكذا)، أي علمه وتفطن له، فالفعل يقتضي متعلقاً به بعد مفعوله، ويتعين أن قوله: {أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} هو المتعلق به، فهو على تقدير باء الجر، والتقدير: بأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فحذف الجار مع (أن) المفتوحة حذف مطرد.
وهمزة (أن) مفتوحة في قراءة الجمهور. والمعنى أمشعر يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، أي بعدم إيمانهم”.
بعد هذا البيان للمعنى والتركيب على هذا الوجه، عرض ابن عاشور الاستشكال الآتي:
“وإنما العقدة في وجود حرف النفي من قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ}؛ لأن {ما يُشْعِرُكُمْ} بمعنى قولهم: (ما يدريكم)، ومعتاد الكلام في نظير هذا التركيب أن يجعل متعلق فعل الدراية فيه هو الشيء الذي شأنه أن يظن المخاطب وقوعه، والشيء الذي يظن وقوعه في مثل هذا المقام هو أنهم يؤمنون؛ لأنه الذي يقتضيه قسمهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، فلما جعل متعلق فعل الشعور نفي إيمانهم كان متعلقاً غريباً بحسب العرف في استعمال نظير هذا التركيب”.
وأجاب ابن عاشور على هذا الاستشكال إجابة عميقة مطولة فقال: “والذي يقتضيه النظر في خصائص الكلام البليغ وفروقه أن لا يقاس قوله: {وَما يُشْعِرُكُمْ} على ما شاع من قول العرب (ما يدريك)، لأن تركيب (ما يدريك) شاع في الكلام حتى جرى مجرى المثل باستعمال خاص لا يكادون يخالفونه، كما هي سنة الأمثال أن لا تغير عما استعملت فيه، وهو أن يكون اسم (ما) فيه استفهاماً إنكارياً، وأن يكون متعلق (يدريك) هو الأمر الذي ينكره المتكلم على المخاطب.
فلو قسنا استعمال {ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} على استعمال (ما يدريكم) لكان وجود حرف النفي منافياً للمقصود، وذلك مثار تردد علماء التفسير والعربية في محمل {لا} في هذه الآية.
فأما حين نتطلب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب (ما يدريكم)، وإلى إيثار تركيب {ما يُشْعِرُكُمْ}؛ فإننا نعلم أن ذلك العدول لمراعاة خصوصية في المعدول إليه: بأنه تركيب ليس متبعاً فيه طريق مخصوص في الاستعمال، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظم في استعمال الأدوات والأفعال ومفاعليها ومتعلقاتها.
فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التنبيه والتشكيك في الظن، ونحمل فعل {يُشْعِرُكُمْ} على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العلم، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباته سواء في الفرض الذي اقتضاه الاستفهام، فكان المتكلم بالخيار بين أن يقول: {أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وأن يقول: (إنها إذا جاءت يؤمنون)، وإنما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنه الطرف الراجح الذي ينبغي اعتماده في هذا الظن.
هذا وجه الفرق بين التركيبين. وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر، ولا ينبغي لصاحب علم المعاني غض النظر عنها، وكثيراً ما بين عبد القاهر أصنافاً منها، فليلحق هذا الفرق بأمثاله.
وإن أبيت إلا قياس {ما يُشْعِرُكُمْ} على (ما يدريكم) سواء، كما سلكه المفسرون، فاجعل الغالب في استعمال (ما يدريك) هو مقتضى الظاهر في استعمال {ما يُشْعِرُكُمْ}، واجعل تعليق المنفي بالفعل جرياً على خلاف مقتضى الظاهر؛ لنكتة ذلك الإيماء، ويسهل الخطب”.
وعن الاحتمال الثاني للواو في {وَما يُشْعِرُكُمْ} قال ابن عاشور:
“وأما وجه كون الواو في قوله: {وَما يُشْعِرُكُمْ} واو الحال فتكون «ما» نكرة موصوفة بجملة {يُشْعِرُكُمْ}، ومعناها شيء موصوف بأنه {يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وهذا الشيء هو ما سبق نزوله من القرآن، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ…} [يونس: 96، 97]، وكذلك ما جربوه من تلون المشركين في التفصي من ترك دين آبائهم، فتكون الجملة حالاً، أي (والحال أن القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم، فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيمانهم)، قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12]”.
وعلق ابن عاشور على ما ذهب إليه المفسرون للآية فقال:
“وإني لأعجب كيف غاب عن المفسرين هذا الوجه من جعل «ما» نكرة موصوفة، في حين إنهم تطرقوا إلى ما هو أغرب من ذلك!!”.
ثم قال: “فإذا جعل الخطاب في قوله: {وَما يُشْعِرُكُمْ} خطاباً للمشركين، كان الاستفهام للإنكار والتوبيخ، ومتعلق فعل {يُشْعِرُكُمْ} محذوفاً دل عليه قوله: لئن جاءتهم آية.
والتقدير: (وما يشعركم أننا نأتيكم بآية كما تريدون).
وختم تعليقه بقوله: “ولا نحتاج إلى تكلفات تكلفها المفسرون…”.