قال تعالى : {وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [القصص: 77]

كثيرون منا ربما يفهم هذا الجزء من الآية الكريمة (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا) على أنها دعوة للاستمتاع بهذه الحياة وما فيها من مباحات الملذات والشهوات والمغريات، من مال وبنين، وزروع وثمار وغيرها من مباهج الحياة الدنيا .. لكن الأمر بالطبع ليس بالسعة هذه أو الفهم هذا، خاصة أن الآية من بدايتها عبارة عن دعوة تؤكد أهمية أن يستثمر الإنسان ما يملك في هذه العاجلة، لخير الباقية (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي ما آتاك الله من خيراته ونعمائه، لتأتي التكملة (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا). أي أن الأمر هنا بحاجة إلى شيء من التدبير الحكيم.

قد تتساءل وتقول: كيف نوازن بين الأمرين أو الدعوتين؟ الإجابة في التفاصيل القادمة للموضوع..

لاحظ أن مشكلة غالبيتنا اليوم، هي التعمق في العمل الدنيوي حتى يكاد أحدنا ينسى آخرته، إن لم يكن البعض قد نساها فعلاً. أو ربما على النقيض من ذاك، تجد من يتعمق ويتشدد في الجزء الأخروي حتى يكاد ينسى نصيبه من الدنيا، إلى الدرجة التي يُخشى عليه أن يكلّ أو يمل، وهذا شعور لو تسرب إلى النفس بعد حين من الدهر، قد يؤدي بالإنسان إلى نوع من التراجع أو الانتكاس، إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم.

بمعنى آخر مختصر، ضاعت بوصلتنا اليوم في زحمة الأعمال والمشاغل. فتجد إفراطاً وتوسعة عند أحدنا في العمل الدنيوي، المباح منه وغير المباح، مع تفريط بالغ مصاحب لكل ما له علاقة بالعمل الأخروي. أو يحدث على العكس من ذلك كما أسلفنا آنفاً، ويحدث تقتير على النفس في الدنيا غير مطالب به، مع تشدد وتعمق في العمل للآخرة.

الأصل في حياتنا الدينية والدنيوية ألا يكون هناك إفراط ولا تفريط. ديننا دين الوسط، أي أن التوسط هو غاية الدعوتين بالآية المذكورة أعلاه. استثمر ما عندك في الدنيا في أي عمل صالح تريح به نفسك دنيوياً، وفي الوقت ذاته تبني به لك مستقبلاً في الآخرة . أوصانا الله بألا ننسى نصيبنا من الدنيا، وأن نوازن في الأعمال والمهام واستثمار حلال الدنيا لحلاوة وجمال الآخرة.. هكذا تجري الأمور في ديننا بكل وضوح وسهولة ويسر، دون حاجة لمزيد شروحات وعميق تفصيلات.

استثمر دنياك لآخرتك

الاستثمار للغد أمر لا يشك في أهميته أحد، سواء كان هذا الغد مستقبلك الدنيوي أم المستقبل الأخروي. كلاهما مهمان، والرسول الكريم – – أوصانا بأن نسأل الله خيري الدنيا والآخرة.. وحديثي ها هنا بالطبع لا أقصد به الغد الدنيوي القريب، بل ذاك الأخروي، الذي لا أقول إنه بعيد، لأنه ربما يكون هو الأقرب من الدنيوي، على اعتبار أن الأعمار والآجال بيد الله، وآخرة الإنسان تبدأ من لحظة موته، أطال الله في أعماركم وبارك فيها.

بشكل عام، ليس مقصدنا من موضوعنا هو التوقيت أو الزمن، بقدر ما هو كيفية استثمار اليوم أو الحاضر الدنيوي للغد الأخروي، دون أن ننسى في الوقت ذاته، ونحن نعمل للآخرة، نصيبنا من الدنيا كما يعلمنا القرآن، مع ضرورة ألا تحكمنا شهوات المجتمع، ونخضع لها ونسير في ركابها.

ليس هدف المسلم وغايته في هذه الدنيا، أن يجمع الأموال بأشكالها المتنوعة، ولا أن يبني البيوت والقصور، ولا أن يشغل نفسه بتغيير أثاث بيته كل عامين أو ثلاث، أو هواتفه وسياراته، أو يجهد نفسه ويجبرها على أسفار السياحة كل عام، أو يشغل نفسه بأشكال مختلفة من الأعمال والتجارة، أو ترضية فلان وعلان على حساب دينه أو دنياه، وغيرها من شهوات مجتمعية، كلنا يلاحظها ويعايشها وربما كثيرون منا يعاني منها بصورة وأخرى.

ليس من الحكمة إذن أن تكون كل تلكم الشهوات ضمن أجندة المسلم في دنياه. لماذا؟ لأن الإنسان في الأصل، مخلوق لحياة أخرى باقية خالدة، وما الحياة الدنيا هذه إلا متاع مؤقت زائل لا محالة. حياة كلها اختبارات وابتلاءات، على أشكال وصور متنوعة. تلك حقيقة راسخة لا تتغير، وبالتالي يقتضي هذا الأمر حكمة من المسلم في التعامل معها، وتجنيد كل طاقاته وفكره وما يملك في دنياه لأجل آخرته، وآخرته فقط.

لا شيء في أن تملك بيتاً وتتخذ زوجة وتطلب ذرية صالحة وتشتغل بالتجارة وتكسب أموالاً حلالا، ولا شيء كذلك في أن تجول وتصول العالم سياحة واستكشافا، لكن لا يكن كل ذلك همك الأول، أو على حساب آخرتك، بل كلما سنحت فرصة ووجدت في أي منها صلاح حالك، وداعما لمشروعك المستقبلي هناك في الآخرة، فلا بأس بها، وأنت بالطبع أدرى بالذي ينفعك ويصلح عملك الدنيوي والأخروي. إن الحكاية باختصار شديد: دنياك طريقك لآخرتك، وأنت مديرها، فإما أن تديرها بشكل فاعل صحيح ترى نتائج إدارتك باهرة مبهجة هناك في الآخرة، أو ترى العكس من ذلك. أنت صاحب القرار ومنفذه أيضاً.

حياتنا أيام معدودة

حياتنا ما هي إلا أياماً معدودات، وإن عاش أحدنا مئات السنوات. هي لحظات وتنتهي، مقارنة بأعمار الأمم والحضارات، أو الكواكب والمجرات. وسيكون من عدم الحكمة لو أضاع أحدنا جُل هذا الوقت القصير فيما لا يعود بالنفع عليه بالغد الأخروي القريب، وهو ما يستدعي من أي عاقل حصيف، عدم التفريط في وقته القصير الموجز هذا، فيجتهد تبعاً لذلك، ويؤدي أعمال دنياه بنية الوصول إلى آخرته بسلام، مع التأكيد تارة أخرى، ألا يكون في ذلك إفراطاً هنا أو تفريطاً هناك.

قد يتساءل أحدنا أحياناً، ويقول: ما قيمة حياة قصيرة يكره بعضنا بعضاً بسببها؟ أو نتآمر على غيرنا أو نظلم مَن حولنا لمتاع قليل زائل من متاعها؟ ما قيمة هذه الحياة التي تدفع أحدنا ليقطع أهله ويعق أمه وأباه، أو ينشر شره ويقل خيره ويؤذي جاره، أو يتلذذ بالمنكرات والمحرمات، أو غير ذلك من مشاهد حياتية يومية عديدة، وشهوات مجتمعية متناثرة حولنا، نتأثر بها حيناً ونتبعها في أحيانٍ أخرى كثيرة وعلى غير هدى؟

إن من الأهمية بمكان في ختام هذا الموضوع، معرفة قيمة وحقيقة هذه الحياة القصيرة، لأن تلك المعرفة ستكون دافعة لتغيير أو تصحيح نظرتنا إليها وبفهم دقيق، حتى لا تتحكم بنا شهوات المجتمع في إدارة دفة حياتنا الدنيا، والتي هي بكل تأكيد، ليست فصولاً من أكل وشرب وتكاثر وجمع للأموال.. لا، ليست هي كذلك أبداً. وما خلقها الله لنا ولا خلقنا لها لتكون كذلك، بل هي وسيلة مؤدية لأمر أكبر وأعقد وأصعب مما يمكن تصوره.

إن حياتنا هذه ما هي إلا قنطرة لحياة أخرى لا نهائية، أو أبدية خالدة مختلفة، لا يمكن وصفها بأي حال من الأحوال في سطور محدودة ها هنا. لكنها بكل تأكيد، تستحق عملاً خالصاً صحيحاً للوصول إليها عبر حياتنا الدنيا القصيرة هذه..

والله تعالى دوماً وأبداً كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.