القلب ما سمي قلباً إلا لأنه متقلب من حال إلى حال، لا يثبت على حال واحدة، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ” إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن”، وقد كان رسول الله – ﷺ – يكثر من دعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، حتى قالت له أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -: يا رسول الله، إنك تدعو بهذا الدعاء قال: يا عائشة، أو ما علمتِ أن القلوب، أو قال: قلبُ بني آدم بين إصبعي الله، إذا شاء أن يقلبه إلى هُدى قَلَبه، وإذا شاء أن يقلبه إلى ضلالة قلَبَه؟ (أخرجه الترمذي وابن ماجه)
الأحداث تتوالى علينا وتتعاظم، وفي الوقت ذاته تتعقد وتتشابك بسببها الرؤى والمفاهيم والقناعات حتى يقع كثيرون في حالة من الالتباس شديدة، فقد يرى أحدنا في لحظة ما، الباطل حقاً والحق باطلا، وإن اختلفت النسب والدرجات، بحسب البيئة التي يكون أحدنا فيها والمؤثرات من حوله. فما نراه أمامنا من مشاهد ومواقف متنوعة متقلبة للبشر، تجعل أحدنا يقف مشدوهاً حذراً ويبدأ تلقائيا يردد دعاء تثبيت القلب، ليس لشيء إلا لأن المشاهد الواقعة والفتن الحاصلة الآن من حولنا صادمة شديدة الوقع على النفس، تجعل الحليم حيرانا.
الثبات على الحق ليس بذاك الأمر الهين، فالتنظير فيه أو الحديث حوله، كتابة أو شفاهة، يختلف كثيراً عن فعل البقاء والثبات على الحق والتمسك به. وربما في حالات الهدوء والسكينة والاستقرار تتساءل عن السر في كثرة تعظيم البعض منا لأمر الثبات على الحق، وأهمية التمسك به وخصوصاً أن الأمور واضحة لا تدعو للخشية من التحول عنه، فتتساءل عن هذا الإلحاح والاستمرار في دعاء تثبيت القلب، وهل هناك فعلاً فتن ومواقف يمكنها خلع القلب عن مكانه ويتغير كما نقول في الرياضيات 180 درجة؟.
مع تكاثر الأحداث اليومية المرتبطة بخلافات ومشكلات، وتنوع المواقف أو الفتن تجاهها، ما ظهر منها وما بطن، ستدرك من فورك سبب ذاك التعظيم أو تكرار الحديث عن الحق وضرورة الثبات عليه. فما إن تضطرب الأمور حولك وتختلف، وتنفتح أبواب الفتن من كل جهة، ستبدأ تعي الأمور تدريجياً ويتضح لك ما يجري حولك.
لكن وباختصار شديد، وقبل أن نتعمق أكثر في التفاصيل، أو تتحول أنت عن تكملة بقية المقال لأي سبب، أدعوك ونفسي أولاً وآخراً، إلى وجوب عدم الركون إلى علمنا ومالنا وحسبنا ونسبنا في مسألة الثبات على الحق. ذلك أن شواهد التاريخ حول هذه المسألة أكثر مما يمكن كتابتها ها هنا. فمن تحولوا عن الحق إلى الباطل في فترة ما من حياتهم، سواء استمروا أم عادوا إلى رشدهم، كانوا على علم وفهم كبيرين، ومع الحق قلباً وقالباً أينما كانوا وحلوا، يدافعون عنه ويدعون إليه في كل مناسبة. لكن بفعل ظروف حياتية معينة وقعت لهم أو حولهم، وجدت قلوبهم تتغير تدريجياً حتى الكفر بما كانوا عليه، بل وربما وجدت بعضهم وقد انقلب على أعقابه خاسرا. الأمر ليس بدعة، وليس بالأمر الجديد في تاريخ البشر.
ما العمل؟
كما بدأنا الحديث وقلنا بأن القلب ما نسميه قلباً إلا لأنه يتقلب ولا يستقيم على حال، فإنه لم يكن به من شحنات وكميات كافية من اليقينيات والمثبتات، فإن رحلة انقلابه تمر سريعاً سريعاً، وستتغير تبعاً لذلك مواقف صاحبه بالمثل سريعاً. لكن هل يعني أن كل انقلاب للقلب سيئ. بالطبع لا، لأن القلب إذا وجدته ينقلب أو ينتفض على أمور حياتية سلبية سيئة، فسيكون انقلابه جميلاً محموداً، بل ومرغوبا. لكن الإشكالية لو أن انقلابه كان على أمر في الدين على وجه التحديد، فها هنا يصبح القلب وانقلابه في خانة خطرة.
من هنا، أجد أهمية الانتباه والتثبت وقت صناعة مواقف حياتية معينة لك، بناء على مواقف وآراء الأحياء من البشر، علماء أم مفكرين أم مؤثرين أم غيرهم. لماذا الانتباه والتثبت؟ لأن أحدهم لا يؤمن عليه من الفتنة أو انقلاب القلب عنده، فتجد نفسك في حال فتنتهم وانقلابهم في حيرة بسبب ذاك التغيير الذي حصل لهم، وبالتالي تجد نفسك – إن كنت من المقتنعين بأولئك المنقلبين – مضطراً إلى هدم ما صنعته من مواقف، أو أنك تساير المنقلبين، سواء كانوا على حق أم باطل.
هذا الأمر لابد أن يدفعك – إن شئت طبعاً في بناء وصناعة موقف شخصي لك – أن تختار مستقبلاً، المواقف السليمة الصحيحة تجاه أمر من الأمور وفق قناعات تستنتجها أو تستلهمها من مواقف أناس هم عند ربهم الآن.. فمن المؤكد أن مواقفهم لن تتغير أبداً.
هذه دعوة خالصة لعدم التشبث بأصنام أو أوثان على شكل بشر أو مفاهيم أو نظريات وأيديولوجيات أو غيرها، بل الأصل هو التشبث بالحق أينما كان وعلى أي صورة يظهر. وليحرص كل منا على أن يظل قلبه حياً واعياً حذراً من الميل والزيغ، مرة إلى هنا ومرة إلى هناك. وإن كثرة الدعاء والابتهال إلى مقلب القلوب، من أسباب الثبات على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.