يقسم علماء الأصول المصالح إلى ثلاثة أنواع : المصالح المعتبرة، والمصالح الملغاة، و والمصالح المرسلة.
ومرادهم بالمصالح المعتبرة : هي المصالح التي جاءت الأحكام الشرعية لتحقيقها ومراعاتها، مثل مصلحة حفظ العقل التي تضمنها تحريم الخمر.
ومرادهم بالمصالح الملغاة : هي المصالح التي وردت الأحكام بإلغائها وعدم مراعاتها، كمصلحة الخمر والميسر التي اعترف بها القرآن لكنه ألغاها ولم يأبه بها لقلتها بإزاء مفاسدهما، قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة: 219]
ومرادهم بالمصالح المرسلة : تلك المصلحة التي اعتبر الشارع جنسها، ولا يشهد لعينها أصل معين بالاعتبار.
المثال اليتيم
والمصالح الملغاة، يمكن التمثيل لها بأكثر من مثال تنظيرا.
لكن الأصوليين والفقهاء حينما يمثلون للمصالح الملغاة بمثال عملي واقعي، لا نجدهم يذكرون غير مثال واحد، وهو :
ما حكاه ابن بشكوال أنه صادف لعبد الرحمن بن الحكم الأموي، رابع ملوك بني أمية في الأندلس أن وطئ في نهار رمضان، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى الليثي المالكي، تلميذ الإمام مالك: يكفر ذلك صيامُ شهرين متتابعين؛ ثم علل فتواه ـ بعدم التخيير في الكفارة : لو فتحنا له هذا الباب، سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. ([1])
مأخذ العلماء على يحيى الليثي
تتابع الأصوليون على تخطئة يحيى الليثي؛ لتقديمه مصلحة ملغاة على النص، فإنه راعى مصلحة زجر الإمام، وأن ذلك لا يتحقق بالعتق ولا بالإطعام، وإنما يتحقق بالصيام لصعوبته عليه.
لكن يحيى الليثي هنا خالف مذهب الإمام مالك، الذي يرى أن خصال الكفارة على التخيير، أي أن من حق الإمام أن يختار بين ( العتق، أو الصيام ، أو الإطعام) لكن يحيى فرض عليه الصيام.
كما أنه خالف أيضا مذهب الجمهور الذين يرون أن خصال الكفارة على الترتيب، بدءا من العتق بغض النظر عن المكانة الاجتماعية والنفسية للصائم.
والدليل الذي استنبط منه الفقهاء إلغاء مصلحة الزجر في كفارة الصيام أن الحديث لم يستثن الغني من خيار العتق والإطعام في الكفارة، بغض النظر عن كونه خيارا تراتبيا أو انتقائيا.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي وهو شافعي المذهب : ” فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال.
ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي.”([2])
ويقول الشاطبي وهو مالكي المذهب :” فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفا للإجماع.”([3])
رأي القرافي
غير أن القرافي كان له رأي آخر، فقد رأى أن هذه المصلحة، أي مصلحة زجر من جامع في رمضان ليست ملغاة، فقال ما معناه: أن الكفارات شرعت للزجر، والملوك لا تنزجر بالإعتاق لسهولته عليهم فتعين ما هو زاجر لهم، وهذا من النظر في المصلحة ولا تأباه القواعد، ولعله غير مناف للتخيير لإمكان حمل التخيير على فقد المعين لنوع منها.([4])
وخالف المصلحة أيضا
ووجه الشيخ القرضاوي النقد وجهة أخرى، فذهب إلى أن الليثي خالف المصلحة المطلوبة من تشريع الكفارة، فقال : ” إن هذا الفقيه بفتواه هذه قد أخطأ النص، وأخطأ المصلحة معًا.
أما أنه أخطأ النص، فظاهر، وقد اعترف به ـ وما كان له ذلك، فقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36).
وأما أنه أخطأ المصلحة، فلا شك أن تحرير رقبة إنسان من نَيْرِ الرق، من أعظم المصالح التي يحرص عليها الإسلام، ويسعى إليها الإنسان، حتى إن القرآن اعتبر “تحرير رقبة مؤمنة” كفارة للقتل الخطأ، فكأن تحرير الإنسان عِوَضٌ عن إحيائه، فإذا كنا لا نستطيع إحياء نفس مقتولة، فإن البديل لها تحرير نفس مُسْتَعْبَدَة.
فلو فرض أن هذا الأمير غَلَبَتْهُ شهوته، وجامع في كل يوم، وأعتق عن كل يوم رقبة فإن مجموع من يُعْتِقُهُ في الشهر ثلاثون رَقَبَة، وتحرير ثلاثين رقبة ـ في ميزان الحق والخير والمصلحة ـ أرجح من صيام هذا الشخص.([5])
دفاع معاصر عن الليثي
بينما كان للدكتور سامي السويلم رأي آخر، حيث قال : ” انتقد كثير من الأصوليين هذه الفتوى لأن الشرع جاء بالتخيير في حين ألزم الليثي الأميرَ بواحد منها، ورأوا أن هذه الفتوى تخالف النص.
والحقيقة أن هذا التمييز بين أحوال الناس له أصل من الشرع. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبِي ﷺ فَجَاءَ شَابّ فقال يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: “لَا”. فَجَاءَ شيخٌ فقال: أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قال: “نَعَمْ”. قال: فَنَظَرَ بَعْضُنَا إلَى بَعْض، فقال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “قَدْ عَلِمْتُ لِمَ نَظَرَ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْض؛ إنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ”. رواه الإمام أحمد (السلسلة الصحيحة ١٦٠٦).
ويؤيد هذه الفتوى أن العتق والإطعام يكون من بيت المال، وهو مال المسلمين، بينما الصوم خاص به. فالأولى في حقه تقديم الصوم حفظاً للمال العام.”
دلالة اختلاف الأصوليين حول هذه المسألة
إن اختلاف الأصوليين والفقهاء حول هذه المسألة يدل على أن رتب المصالح تختلف في أذهان الفقهاء وأفكارهم ، فمن الفقهاء من رأى أن تشوف الشارع إلى عتق الرقيق أهم من تشوفه إلى زجر شخص عن إصابة زوجته في رمضان.
ومنهم من يرى أن زجر الإمام فيه من الاستقامة التي تنعكس على استقامة المجتمع، ما يجعله النظر الأصولي أولى من عتق الرقاب، وفي ذلك يقول السويلم : “ضاعت الأندلس ليس بسبب قلة الإعتاق؛ بل بسبب غلبة الشهوات”
وهذا الاختلاف في ترتيب المصالح يمكن أن تظهر ثمرته في مئات القضايا عند الانتقال من التنظير إلى الممارسة فيما يعرف بالسياسة الشرعية، وهو ما يوسع مساحة السياسة الشرعية توسيعًا كبيرا.
ولقد كان الأمر واضحا وحادا عند أبي حامد الغزالي؛ لأنه ممن يرفض من الأصل التوسع فيما يعرف بالاستصلاح، أي التشريع المصلحي؛ وهذا معلم من معالم الفقه الشافعي.
أما المالكية فلأنهم يقولون بالتشريع المصلحي، وجدنا بينهم خلافا في تحديد رتب المصالح، فوجدنا القرافي المالكي يخالف الشاطبي المالكي في هذه المسألة.
وكل ذلك يدل على أن المساحة التي سوف تترك للاجتهادت البشرية في الدولة الإسلامية مساحة واسعة.
([1])راجع الاعتصام 2/ 114.
([2])المستصفى (ص: 174)
([3])الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (2/ 611)
([4])” الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 315)
([5]) السياسة الشرعية . د. يوسف القرضاوي.