الصورة السائدة للأمانة لدى كثير من الناس صورة قاصرة جدا. إنها تقتصر على حفظ الودائع المادية والعناية بها ثم استردادها لأصحابها كما هي. ورغم أهمية ذلك في دائرة مكارم الأخلاق، إلا أن هذه الصورة هي أدنى مراتب الأمانة من منظور ديننا الحنيف.

في كتابه النافع “خلق المسلم” فصّل الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مفهوم الأمانة في الإسلام، وكشف في ضوء نصوص الوحي من قرآن وسنة أنها أوسع وأضخم وأثقل مما يتصوره عامة الناس، وبين أنها تتضمن معان عديدة ومراتب جليلة، أساسها جميعا إدراك المسلم ويقينه بأنه سيُسأل أمام ربه، ويُحَاسب على كل أمر يكلف به ويوكل إليه، بناءً على الحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) صحيح البخاري.

فالأمانة في الإسلام فضيلة ضخمة وفريضة كبرى، وقد ضرب الله المثل لضخامتها بصورة ذات دلالات مؤثرة ومعبرة لكي لا يستهين الناس بها، فقال تعالى :(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا )الأحزاب:72.

والمناصب العامة أمانات مسؤولة، وهي من بين أعلى مراتب الأمانة، والتفريط فيها بتسليمها لغير المؤهلين لها يُعَد خيانة عظيمة.

ولطالما كان رسول الله – عليه السلام – يوصي بالأمانة في خطبه، ويحذر من التفريط في حملها. فعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع وصحيح الترغيب والترهيب.

والمناصب العامة أمانات مسؤولة، وهي من بين أعلى مراتب الأمانة، والتفريط فيها بتسليمها لغير المؤهلين لها يُعَد خيانة عظيمة. ولذلك لما سأل أبوذر رضي الله عنه – وهو من هو في الصلاح والزهد والعلم والخُلق – الرسول – عليه السلام –  لماذا لا يستعمله ( أي يوليه وظيفة عامة ) ، قال له : (( يا أباذر! إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها )) رواه مسلم.

إذاً هناك شرطان لتولية الوظيفة : الأهلية لها، والوفاء بمتطلباتها كما ينبغي.

وقد علق الشيخ الغزالي في “خلق المسلم” على هذا الحديث بقوله : “إن الكفاية العلمية أو العملية ليست لا زمة لصلاح النفس، فقد يكون الرجل رضي السيرة، حسن الإيمان، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة… والأمانة تقضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها ، فإذا ملنا عنه إلى غيره – لهوى أو رشوة أو قرابة – فقد ارتكبنا – بتنحية القادر، وتولية العاجز – خيانة فادحة “.

وقد رُويت أحاديث تحذر من الخيانة في تولية المناصب لغير الأكفاء تحذيراً شديداً وتُرهّب منه ترهيباً مخيفاً، مثل ما روي عن النبي عليه السلام – أنه قال : ((من استعمل رجلا على عصابة – أي جعله مسؤولا على جماعة – وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) رواه الحاكم في المستدرك، ولمعرفة حكم العلماء على الحديث أنظر الحاشية *.

وهذا التحذير قائم على أن الوظائف والمناصب العامة أمانات مسؤولة، فإن سُلّمت لمن هم ليسوا بأهل لها فمن شأن ذلك أن يؤدي إلى استشراء الفساد في المجتمع بأسره بحسب خطورة المنصب. وذلك ما نبه إليه النبي – عليه السلام – في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة)) ، قال: “كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ ” ، قال : ((إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)).

والأمانة تقضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها ، فإذا ملنا عنه إلى غيره – لهوى أو رشوة أو قرابة – فقد ارتكبنا – بتنحية القادر، وتولية العاجز – خيانة فادحة “.

واستنادا إلى مجمل هذه النصوص وأمثالها، وكذلك القواعد العامة في الشريعة ومقاصدها، ذهب علماؤنا المحققون الصادقون من السلف والخلف إلى وجوب اختيار الأكفأ في عملية تولية المناصب.

وقد بوب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الفصل الأول من كتابه ” السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية “، بعنوان ” استعمال الأصلح ” واستشهد فيه ببعض هذه النصوص والقواعد وعلق عليها بقوله :

” فيجب على ولي الأمر أن يولّي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل، وهذا واجب عليه، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ومن أمراء الأجناد … وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين.

وعلى كل واحد من هؤلاء، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده … فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية ، أو يسبق في الطلب …

فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو صداقة ، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب ، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الأنفال:27 ..” اهـ .

إن هذا القول الدقيق والمفصل والعميق لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إنما يدل على إدراك علمائنا المحققين الصادقين لمدى خطورة وجرم وخيانة من يولي المناصب لغير الأكفاء.

فويل لكل من يستهين بهذه الخيانة ، ويل له ، ويل له .

______________

* قد اختلف العلماء في الحكم على هذا الحديث، فقد صححه الحاكم، والبصيري في إتحاف الخيرة كأنه مال إلى تحسينه للمتابعات والشواهد، وصرح محققوا المطالب العالية بتحسينه، وأكثر نقاد الحديث حكموا بضعفه، وللحديث شاهد بمعناه أشد ترهيبا، وهو ما روي عن يزيد بن أبي سفيان قال لي أبو بكرٍ رحِمه اللهُ حينَ بعثَني إلى الشامِ يا يزيدُ إن لك قرابةً عسيتُ أن تُؤثِرَهم بالولايةِ وذلك أكثرُ ما أخافُ عليك فإن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : ((مَن وَلِيَ من أمرِ المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباةً فعليه لعنةُ اللهِ لا يقبلُ اللهُ منه صرفًا ولا عدلًا حتى يُدخِلَه جهنمَ ))، وهذا الشاهد رواه الحاكم أيضا في صحيحه، إلا أن أكثر المحققين حكموا بضعفه كذلك. وعلى كل حال فالاستشهاد بمثل هذه الأحاديث في الترهيب يتسامح فيه ما دام أنها غير مكذوبة، ولا سيما وأن معناها تؤيده أحاديث صحيحة مثل الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه : ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة))، قال: كيف إضاعتها؟ قال: (( إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )).

وقد استشهد بالحديث شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 28/247، حيث قال : “فصل: فأما أداء الأمانات ففيه نوعان: أحدهما: الولايات…. فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله)) وفي رواية : ((من ولَّى رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين)) ، وعلق الشيخ على الحديث بقوله : “رواه الحاكم في صحيحه، وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روى ذلك عنه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : “من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين”… اهـ.