يقصد بالبحث العلمي الأنشطة التي تعنى بدراسة ظاهرة أو أمر ما، للكشف عن حقيقته، وإبراز ما يحيط به من تداعيات وعلل، والاستفادة من نتائجها من بعدُ. وقد تكون نتيجة هذا النشاط خطابا يلقى في محاضرة أو ندوة أو مؤتمر، كما قد تكون بالتأليف والنشر، مقالة أو كتابا؛ جماعيا أو فرديا.

يقوم البحث العلمي على خطوات وإجراءات ومعايير معينة؛ هي مظنة تحقيق الهدف منه لدى الالتزام بها، وهي أمور بشرية موضوعة بعد عمر من التجارب والخبرات؛ يراد منها إدارة عملية البحث العلمي، وهي قابلة للتنقيح والتطوير، ولا تتصف بالثبات أبدا.

يجب أن ينطلق البحث العلمي –غالبا- من جهل وغموض أو إشكالية، يتبع ذلك فرضيات علمية دقيقة، يقدمها من توفرت فيه شروط الباحث كمتخصص وخبير، ثم تُفحص هذه الفرضيات بكل موضوعية، بسلوك منهج من المناهج المناسبة، ليثبت صدق الفرضية ويعمل بها كنتيجة علمية، أو يتخلف صدقها فيصرف النظر عن الفرضيات.

والدراسات الإسلامية تعنى بمعرفة الله والكون والإنسان (عقيدة، أو دين)، وتعنى بمعرفة حكم الله في أفعال المكلفين، وعلاقتهم مع بعضهم (فقه، وأخلاق أو تدين)، وبالمنهجية الصحيحة للوصول إلى ما مضى “علم اللغة، أصول الفقه، والمنطق أو الفلسفة.” وعمدة العلوم الإسلامية كلها الوحيان: القرآن والسنة، وما يدور حولهما.

الفروق بين البحث العلمي والدراسات الإسلامية

الدراسات الإسلامية تعنى بمعرفة الله والكون والإنسان وتعنى بمعرفة حكم الله في أفعال المكلفين

ثمة وجوه شبه بين الأمرين، ويمكن إيجاد الكثير من القوائم المشتركة، لكن يصعب أن تكون تلكم قواعدَ ثابتة تُتخذ القرارات عليها باسم الأمرين.

من أهم الفروقات ما يأتي:

– معايير مسمى “البحث العلمي” سهل التطبيق على العلوم التطبيقية، من هندسة وكيمياء وفلك ورياضيات وميكانيك، وإدارة واقتضاد؛ لأنها معنية بها وفصلت عليها. بينما العلوم الإسلامية معنية بتقرير نظريات وتهذيب سلوك أو بتعليم الناس على أن لها في ذلك منهجية علمية مغايرة.

– الغرض من البحث العلمي معرفة مكونات الكون والعمل على تسخيرها للإنسان بما يعود عليه وعلى مجتمعه بالخير والرفاهية. بينما الغرض من الدراسات الإسلامية تزكية الناس وأخذهم إلى الجادة الحقة والصراط المستقيم.

– وجود “إشكالية” عنصرٌ مهم جدا للشروع في البحث العلمي، بينما تعليم الناس أمور دينهم وما فيه صلاحهم في الحال والمآل لا يحتاج إشكالية. ومن هنا ينتهي الحديث عن إشكالية مدروسة في البحث العلمي، ولا يكتب فيها أيضاً، وتكون حقوق الطبع للباحث الأول، ومن أخذ منه اعتبر سرقة علمية لجهوده، بينما تكرار العلوم الإسلامية والتأصيل لها بأقوال السلف ونصوصهم عرى العلوم الإسلامية ولبها، وهي صدقة جارية.

– يعتبر إنهاء البحث أو المشروع العلمي بنتيجة علمية ملموسة عنصرا مهما، سواء لدى صدق الفرضية أو العكس، بينما إنهاء درس شرعي قد لا يحتاج إلى نتيجة ملموسة، إذا ما نوّر الشيخُ الطالبَ وحثّه على احترام الجار، والصدق في المعاملة مثلا! وحتى العلوم النظرية الأخرى من جغرافيا وتاريخ واللغويات يراد منها إنهاء الأمر بمشروع بحثي ملموس ومفيد قائم على دراسة ميدانية وخبرة عملية. وإن كان ذلك ممكنا في تلكم النظريات فإنه قليل الإمكان في الدراسات الإسلامية.

– مراعاة المصطلحات العلمية في الحقل مهم في البحث العلمي، والإطناب في الحديث واستخدام الوجوه البلاغية والتحسينية في الكلام والكتابة مرفوض في البحث العلمي، ومن هنا يمكن تحديد عدد كلمات البحث والمقال والكتاب. والعكس بالعكس، لأن المشاعر مطلوبة في الخطبة والموعظة.

تحديات البحث العلمي في الدراسات الإسلامية

يتبنى الكثير -إن لم أقل الأغلب- من الجامعات والكليات في الحقول الأكاديمية ومؤسسات البحث العلمي النظم التعليمية ومعايير البحث العلمي القائم على ما تم ذكره، وبخاصة في مرحلة الدراسات العليا: الماجستير والدكتوراه. وذلك تلبيةً لمتطلبات الاعتراف والاعتماد الأكاديمي التي يقدمه الجهات المعنية، ولا شك أن أكثر هذه المعايير وافدة من الحضارة القائمة، السباقة في وضعها. من أهم التحديات ما يأتي:

– هشاشة الموضوعات المعاصرة، وشيوع الجهل بالدين: يمكن إيجاد موضوعات في الدراسات الإسلامية تكون قابلة لتطبيق معايير البحث العلمي؛ مثل موضوع أسباب كثرة الطلاق في المجتمع الفلاني، سبل معالجة ظاهرة الإرهاب، إدارة المؤسسات الإسلامية على ضوء مؤسسة كذا.. لكن يبقى أن هذه الموضوعات ضئيلة جدا من جملة مفردات العلوم الإسلامية، وقد تكون هشة وقليلة الفائدة؛ مقارنة بالموضوعات التي تربي، وفيها ترغيب وترهيب وتعليم للناس، كأركان الصلاة، شروط وجوب الزكاة.. وهذه أمور مرفوضة لأنها قديمة ولا جديد فيها، والنتيجة هي الجهل بالدين.

– انتشار إسلام معين: كانت الأمة الإسلامية المصدر الأول والوحيد لتلقي العلوم الإسلامية، وإلى علمائها وكتاباتهم يهرع الناس. وباسم البحث العلمي أصبح الغرب وعلمائها ومجلاتها أكبر مصدر للكتابات الإسلامية المعاصرة، وإن معظم دور النشر والمجلات العلمية في الجامعات العربية غير معترف بها في الغرب، أو تحتل الدرجة الأخيرة في تصنيف مصادر المعلومات. والنتيجة أن كتابات “جون” عن الإسلام صار يقرأ عالميا أكثر من كتابات “زيد”.

يمكن إيجاد مواد في الدراسات الإسلامية تكون قابلة لتطبيق معايير البحث العلمي

– غرغرة اللغة العربية: هي باقية بإبقاء الله لها، ويتشرف بها كل مسلم؛ لارتباطها بالوحيين، لكنها تعيش غرغة، لأنها تتجه نحو القومية حينا، ويراد تعليم العلوم الإسلامية في كلياتها بلغات أخرى باسم المعايير.

– فقدان عنصر القداسة: العلوم الإسلامية علوم مقدسة في الأصل، يبدأ بالحمد لله، والصلاة على رسول الله، ويراعي الأخلاق، ويوجد فيها خوف التصدي للإفتاء، ويختم بـ “والله أعلم.” وفيها ذكر العلامة والإمام الأكبر، ونرى ونذهب.. ومعايير البحث العلمي لا تحبذ أيا من ذاك. يكفي “يرى الباحث” “ويذهب الباحث”. على أن الموضوعات المدنية تكاد تطغى على مفردات أبحاث الدراسات الإسلامية المعاصرة على حساب الموضوعات المفروضة طرحها في الحقل. ناهيك أن في مسمى “الموضوعية” ما فيها من خلع القداسة والدين، والظهور على شكل علماني محايد!

– غياب التأصيل العلمي: الأصل في العلوم الإسلامية الرجوع إلى نصوص القرآن والسنة، وأقوال المفسرين، والمحدثين، وآثار الصحابة والتابعين وسلف الأمة وسيرهم. وبكثرة الاقتباس والنقل وذكر قال الله، قال رسول الله، وحدثنا، وسمعت بقدر ما تؤتي العلوم الإسلامية أكلها. لكن البحث العلمي في أغلب المجلات والرسائل العلمية لا ترى ذلك بتاتا؛ بحجة أن الأمر مدروس، ما جديدك أنت؟!

– إقصاء الدين: الطبقة المتعلمة والمثقفة تهتم بمصادر البحث العلمي، وهم صناع القرار وواجهة الإعلام، والطبقة العامة تهتم بالعالم غير الأكاديمي غالبا، فارتقب حفظ الدين!

أخيرا، انتبه قوم إلى هذه التحديات منذ البدء فوقفوا ضد التعليم الغربي بالمرصاد، وترتب على هذا الموقف ما ترتب. ورأى آخرون أنه يمكن تبني النظام الأكاديمي والبحث العلمي بعد عملية “الأسلمة” ووضْع معايير مراعية لطبيعة العلوم الإسلامية، وما زالت طائفة لم يفطنوا إلى طبيعة الأمر!