بين إمام منبتٍّ من الحاضر، يعيش في القرون الغابرة جاعلا من نفسه أسير ماض مغاير لواقع أمته، لا يجد ما يقدمه للمسلمين المنصتين له -يوم الجمعة – سوى القول إن انتصارات المسلمين في معاركهم التاريخية تحققت بالإيمان والتوكل وحدهما، وأن الأمة اليوم باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النصر على الأعداء، -بين هذا الإمام- وآخر يدور مع نشرات الأخبار حيثما دارت، وكأن خطبة الجمعة –بالنسبة له- إنما شرعت لتلخيص تقارير المراسلين، دون أن يكون للوعظ فيها نصيب.

يصاب المتنقل بين المساجد هذه الأيام بحيرة شديدة حين يشتت الخطباء أفكاره بتناقضهم العجيب وعدم تحضيرهم للخُطَبِ بشكل يراعي التوازن المطلوب في هذه المهمة الحيوية التي شرعت لأغراض سامية من أهمها زيادة منسوب الوعي الديني والواقعي لدى المصلين، لكن ما يقوم به خطباء الجمعة اليوم عبارة عن أداء لوظيفة أوكلت إليهم من الجهات الوصية ليأخذوا عليها نهاية كل شهر راتبا معلوما دون التفكير في المحتوى، حتى أن المصلي يتمنى أن ينتهي الإمام من خطبته بعد أول جملة منها ليرتاح من عناء الكلام الممجوج الذي أدمن عليه معظم الخطباء.

لا أنكر أنني من المعجبين بالخطباء الذين يتناولون -إلى جانب الموعظة الحسنة-الشأن العام وواقع الأمة في خطبهم، ويعجبني أكثر في بعض الخطباء نشر ثقافة عدم اليأس وإعادة الأمل إلى النفوس التي ترى واقعا مأزوما يجد المسلم فيه صعوبةً بالغة في رؤية ضوء آخر النفق، لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب الواقع الذي يفرض على الخطباء تبيان أسباب هزيمة الأمة وإنارة الطريق أمامها للأخذ بأسباب النصر.

يعجبني أكثر في بعض الخطباء نشر ثقافة عدم اليأس وإعادة الأمل إلى النفوس التي ترى واقعا مأزوما يجد المسلم فيه صعوبةً بالغة في رؤية ضوء آخر النفق

ففي الجمعة الماضية ركّز الخطيب على قول نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام لأبنائه ” ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون” مؤكدا أن الغيمة المخيِّمَة على أمتنا قد تزول وأنها ستكون سطرا في كتب التاريخ، بعد رجوع الناس إلى الإيمان والتوكل على الله ، مستدلا بما وقع من انتصارات في غزوة الأحزاب، والحروب الصليبية، وحروب التتار، مشيرا إلى أن المسلمين لم ينتصروا في تلك الحروب بعدد ولا عدة وإنما بالإيمان والتوكل فقط، وهذه حقائق إيمانية يدركها الجاهل قبل العالم.

ولو كان الإمام يعيش بعقله الواقع لتناول الموضوع من كافة جوانبه، فالموضوعية تقتضي منه أن يتطرق –بواقعية- إلى أسباب النصر الأخرى التي حقق المسلمون عن طريقها تلك الانتصارات، فغزوة الأحزاب التي جعلها الإمام محورا من محاور خطبته نسي أو تناسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك فيها وسيلة من وسائل الدفاع والقتال إلا أخذ بها، بدءا بحفر الخندق، وانتهاء بتجهيز الجيش للقتال إن اقتضت الضرورة، بعد كل تلك الاحتياطات والأخذ بالأسباب جاء نصر الله ( فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها … )، كما أن انتصارات الأمة بعد ذلك لم تأت من فراغ ولم يعتمد فيها القادة على الإيمان والتوكل فحسب!، بل أعدوا ما استطاعوا من قوة خاضوا بها معارك طاحنة تطايرت فيها الرؤوس وندرت فيها الأيدي والأرجل من الفريقين، وبعد ذلك كان النصر حليفا لمن يستحقه.

أعتقد أن استقراء التاريخ بشكل سلبي والاتكاء على الإيمان والتوكل، وحصر أسباب النصر فيهما يعتبر تخديرا للأمة ومجافاة للواقع والفطرة السليمة التي فطر الله عباده عليها، فقبل التفكير في الانتصار على العدو الخارجي علينا التفكير في الأسباب التي عن طريقها نحقق النصر على – الطابور الخامس – الذي ينخر جسم أمتنا كالجهل المنتشر، والتخلف الحضاري، والابتعاد عن البحث العلمي، والعزوف عن المشاركة في الحضارة الإنسانية الحديثة، -ما لم ننجح في محاربة هذه الأمراض- فسنبقى أمة مهزومة تحاصرنا مشاهد الخراب والدمار، وتلاحقنا الهزيمة جيلا بعد جيل، وعلى خطباء مساجدنا أن يدركوا أن هذه الأمة لن تنتصر بالإيمان والتوكل في الوقت التي تعتبرها الإنسانية عالة عليها في كل شيء، بدءا بالغذاء وانتهاء بالدواء ؟.

استقراء التاريخ بشكل سلبي والاتكاء على الإيمان والتوكل، وحصر أسباب النصر فيهما يعتبر تخديرا للأمة ومجافاة للواقع والفطرة السليمة

لا نريد التشبث بالوهم، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى بعض الناس في المسجد بعد صلاة الجمعة سألهم: من أنتم؟ قالوا: متوكلون، قال: بل أنتم متواكلون…لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، أما سمعتم قول الله – تعالى -: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) ثم علاهم بدرته وأخرجهم من المسجد .

وبدوري أقول لإمامنا الفاضل: لا يقعدن أحدكم عن طلب أسباب النصر ثم يدعو: ” اللهم انصر الإسلام والمسلمين” ألم تسمع قول الله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، فأين ما أعددنا؟، وحدهم حراس الوهم هم المنشغلون باستقراء التاريخ وهم من يردد كانت الأمة وكانت الأمة، نعم كانت الأمة، ولكنها صارت.