استقر عند العلماء أن فقه مقاصد الشريعة من أدق العلوم حيث يحتاج إلى النظر الكلي للتشريع الإسلامي، والاهتداء بمنهاجه المنظوم في حميع تشريعاته، الأوامر منها والنواهي، والكشف عن مقاصد الشريعة عن طريق البحث عن العلل والغايات والحكم التي من أجلها جاء التكليف، فيريح البال ويبعث في القلب الاطمئنان، ويعمل الإنسان وهو في منتهى القناعة أن المكاسب من هذا العمل محتومة.
ولو يعلم العبد أنه خلق على هذه الأرض للعبادة وحدها، وعرف أن منزلته تعلو عند الباري سبحانه كلما علت همته في العبادة والخضوع له، والاستكانة إليه، كان دخوله في العبادة بوجه حسن، وفي هيئة أفضل، وبقناعة مطلقة، وليس مجرد اتباع الآباء والطقوس المنعدمة المعاني، وهذا ما نقرأه في حكاية إبراهيم – عليه السلام – حين سلك البراهين الواضحة، وطرق العلم المقنعة لإثبات التوحيد الحق، فكان من أمره ما قرره بقوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). لهذا كان تتبع معاني النصوص الشرعية وفهم غاياتها ودلالاتها مساعدا جيدا في الرسوخ على المبادئ الإسلامية، وترك الركون إلى الشبهات.
لو يعلم العبد أنه خلق على هذه الأرض للعبادة وحدها، وعرف أن منزلته تعلو عند الباري سبحانه كلما علت همته في العبادة والخضوع له.. كان دخوله في العبادة بوجه حسن
وإن لفقه مقاصد الشريعة مكانة عالية في علم التشريع، والعالم لا ينال غاية الاجتهاد والتفقه حتى يلم بالشرع دليلا وحُكما وحكمة، وتصرفات الفقهاء الأول تأسست على المقاصد، ويقرأ هذا من خلال العلاقات التي تربط المقاصد بمصادر الاجتهاد، حتى قال الشاطبي في الموافقات عن الكتاب والسنة : من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما؛ إذا لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك؛ لم يختلف عليه شيء من الشريعة. (الموافقات: 3/213). ويرى ابن تيمية أن علم المقاصد هو خاصة الفقه فقال: خاصَّة الفقه في الدين…معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها. (الفتاوى: 11/354).
ومن هنا كان أحرى أن أستعرض بعض المعاني الخاصة والحكم المكنونة من تشريع الصيام، فهو كما سبق أن معرفة المقاصد تبعث في القلب الراحة والاطمئنان من العمل المكلف به، فيأتي به العبد مقتنعا بوعد الله وموعوده، فيصوم رمضان بالإيمان الكامل والرجاء في العفو والمغفرة والأجر الجزيل، يقول رسول الله ﷺ (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). ومن مقاصد الصيام مختصرا ما يأتي:
1- رفع درجات التقوى: وهذا الهدف جاء صريحا في القرآن الكريم في آيات فرضية الصيام: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)/البقرة: 183/، فإن العبد يزيد تقوى بأي عبادة شرعية ، والتقوى هي أمارة الإيمان والعمل الصالح، ودليله على الخير، وحرزه من المعاصي، وكلما زاد الإنسان عبادة زاد تقواه، ومهما ضعفت ضعف تقواه، فيأتي رمضان عبادة أو وسيلة لرفع درجات التقوى، والله لا ينال من عبادات العابدين، وإقبال الساعين إليه إلا التقوى، وهذا ما وضحه عدد من الآيات القرآنية، لهذا لا يحقق أحد التقوى الذي أنيط به الصيام حتى يعين قصده من صيامه، فمن صام دون نية التقوى، أو قصد العبادة والتقرب، فإنه لا يقع له أجر العبادة وفضل التقوى، وهذا ما أشار إليه أبو السعود، حين قال: لعلكم تصلون بالصيام إلى رتبة التقوى.
التقوى تكون لجام النفوس تكبحها من سفاسف الأمور، وتأمرها بمعاليها
ويترتب على هذا المعنى أن النفس تمتنع بالتقوى من ارتكاب كل مفاسد الصيام من الأمور الحسية والمعنوية، فلا تتخيل المعاصي التي تفسد عليه صيامه، أو تتعاطاها، فالتقوى تكون لجام النفوس تكبحها من سفاسف الأمور، وتأمرها بمعاليها. وقد وصف ابن القيم هذه الحالة للصائم فقال: إن الصائم لا يفعل شيئا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه. (زاد المعاد: 2/27)، وهذا الإيثار في ترك مستحبات النفس لمرضات الله وقربه نتج عن فهم حقيقة التقوى والتماسها بالعمل.
2- تزكية النفس بالصيام : ويظهر هذا المعنى من الغاية الأولى – لعلكم تتقون – وهي علة صريحة منصوص عليها في الكتاب، فإن النفس حين تنالها التقوى بالصيام فإنها تزكو وتنقى من الأفعال المانعة من كمال أجر الصيام، فالصوم كما وصف رسول الله ﷺ جُنَّة، والجنة – بضم الجيم وتشديد النون – وقاية تقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات، فالصوم يمنع ما يوقع النفس في الشهوات أو في المعاصي التي ترديها في النار، وذلك بأن يزكي له نفسه فترتقي على علية الفضائل، وتحقق العبودية الكاملة لله، فكان من تتمة الحديث: “فإذا كان أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شتمه أو قاتله فليقل: إني صائم”.
الجُنّة تضعف بالرفث واللغو في نهار رمضان! وتقوى حين يكف عن الاسترسال في هذه الموانع من فضول الكلام والنظر
وكأن الحديث يشير إلى أن هذه الجنة تضعف بالرفث واللغو في نهار رمضان! وتقوى حين يكف عن الاسترسال في هذه الموانع من فضول الكلام والنظر .. يقول مصطفى السباعي: قدم الحكمة من الصيام ثم بين آدابه، ليكون أوقع في النفس وأعنق أثرا وليكون المؤمن أكثر اطمئنانا إلى العبادة حين يؤديها، وإلى التشريع حين ينفذه. ويقول ابن الهمام – في فتح القدير: إن الصوم يسكن النفس الأمارة، ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها. ونقل ابن حجر عن السلف: أنهم اتفقوا أن المراد بالصيام صيام من سلم صيامه من المعاصي قولا وفعلا.
ويظهر من هذه الغاية أن الإنسان ينال بالصيام تزكية النفس وتطهيرها من هواجسها وإغواءاتها، وهذا المعنى مستفاد من الهدف الأول وهو التقوى، وقد ربط الشرع بين التقوى وتزكية النفس فقال جل شأنه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات: 40-41). ومخالفة الهوى هي تزكية النفس ولا تكون إلا بالخوف من الله والرجاء في عفوه وانتصار النفس على شهواتها ونزواتها، ويحقق ذلك بالعبادة.