يقدم الدكتور عزمي بشارة مقاربته للحرية في كتابه (مقالة في الحرية) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في يوليو 2016 من زاوية فلسفية تأخذ خطا تنازليا يبدأ من التجريد الفلسفي المعقد ثم يتدحرج في تسلسل منطقي باتجاه سفوح التجليات العملية للحرية، وفي كل المستويات يحاول الكاتب أن يقدم جديدا في موضوع الحرية الذي ما يزال بكرا عصيا على التطويق رغم كثرة ما كتب ومن كتب عنه.

يناقش الكاتب الحرية “بوصفها مسألة متعلقة بالأخلاق، وذلك من وجهين: الأول كشرط المسؤولية الأخلاقية، والثاني باعتبار الحرية قيمة في حد ذاتها، وتقوم فرضية الدراسة على أن الحرية كقيمة تعني الحرية كحريات، أما الحرية الأنطولوجية والحرية المطلقة والحرية المجردة فليست قيما” ص7.

بحاول الكاتب الحفر في التراث الإسلامي عبر مسح فوقي عابر عن بذور مصطلح الحرية بدلالتها المعاصرة (لوازمها وشروطها وضماناتها شيء آخر لا يشك في وجوده في الإسلام بل الإسلام جاء لتحرير الناس من نير الاستبداد الروحي والمادي) ويقرر أنها ظلت ترد في مقابل الرق في مختلف المصادر المتوفرة ثم لا تتجاوزها إلا إلى بعض الصفات الفرعية التي هي من شأن الأحرار (مقابل الأرقاء) كالعزة والشرف والأفضلية إلخ، إلا أن الفارابي ـ حسب المؤلف ـ أوردها بمعنى يتجاوز المقابلة مع العبودية، ويختم هذا النقاش بقوله:”..فيما عدا ذلك، علينا أن نحذر من محاسبة الحضارة الإسلامية في الماضي بموجب مصطلحات ترتبت عن تجارب استمرت قرونا في حضارة أخرى”.

في محاولته تعريف الحرية يذهب عزمي بشارة إلى ما يعرف بالتعريف بتشريح المفهوم فيذكر ركني الحرية الأساسيين ـ في وجهة نظره ـ وهما: العقل والإرادة، ويظهر من خلال الكتاب أنه يريد بالعقل الرد على من يقولون بأن الناس يولدون أحرارا وأن الحرية في أصل الطبيعة البشرية، كما يريد بالإرادة أن يقطع الطريق على المقاربات التقليدية لموضوع (التسيير والتخيير) الذي يعد مبحثا ساخنا في علم الكلام الإسلامي.

لا بد أن نفهم أولا أن الكاتب فرق بين نوعين من الحرية من الناحية الفلسفية، أحدهما هو الحرية كقيمة وهنا فإنها تعني عنده (الحرية كحريات) أي أنها تحتاج دائما من أجل ضبطها مفهوميا وعمليا لإضمار مضاف إليه من قبيل (حرية الإرادة ـ حرية التفكير ـ حرية الانتقال ـ حرية الانتخاب إلخ). أما النوع الثاني فهو الحرية المطلقة أو الأنطولوجية وهي عصية على التعريف وعلى التطبيق لأنها غير متعينة ولا قياسية.

يلح المؤلف في أكثر من فقرة في الكتاب على فكرة أن (الحرية حريات) وأن الحرية المطلقة لا تعني شيئا مفيدا في الحقيقة، ويورد كلمة للفيلسوف الإنجليزي موريس كرانستون يقول فيها أن “كلمة (أنا حر) كلمة فارغة، فلو قالها شخص غريب لا يعرف المخاطب عنه شيئا فسوف يرتبك ويسأل هل يعني هذا الشخص بكلامه أنه خرج لتوه من السجن، أم تحرر من ديونه، أم من زوجته؟ أم من خطاياه؟ لقد قال لك إنه حر، لكنه لم يبين مم هو حر” ص60.

هل وفق الكاتب في وضعه حدود الحرية بين هذين المعطيين أم أنه عزز أعداد القائلين بمذهبه مركبا أو مفككا؟ الظاهر أن الأخير هو الأرجح، وهنا يرد سؤال آخر، لماذا ما زال العالم وليس العالم العربي فقط غير قادر على وضع تعريف جامع مانع للحرية رغم محوريتها وأهميتها ودخولها في مختلف أبعاد حركة المجتمع الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟ تبدو الحرية من ذلك النوع من المفاهيم الذي يفهمه العقل ولا تدركه العبارة.

وقد لاحظ الكاتب ذلك وعبر عنه مبينا أن الناس حينما يعنون الحرية المطلقة يقفون عاجزين عن تعريفها فينتقلون إلى التعبير عنها من خلال الفن، قال:”… وحينما لا يفكرون بالحرية كحريات جزئية شخصية أو مدنية أو سياسية ويتجرؤون على التفكير بـ(الحرية عموما) فإنهم غالبا ينتقلون إلى الأدب والفن فينشدون لها ويبدعون في مديحها أجمل القصائد وأسمى الأعمال الفنية، إنما يفكرون فيها كقيمة، لكنها ليست قيمة فنية. إنها قيمة أخلاقية موجهة” ص67.

ويظل مفهوم الحرية وتنزيلاتها تراوغ مستعصية على التطويق فيلاحظ الكاتب أن الحرية نسبية فما يعتبر سلبا للحرية عند البعض يعتبر تحقيقا لها عند الآخرين، ويمثل الكاتب بالقبائل العربية إبان العصر الجاهلي ـ وربما ما تزال الظاهرة مستمرة في بعض المجتمعات ـ حيث تتم معاقبة الفرد الذي يخل بقيم أو التزامات الجماعة بطرده منها لا بسجنه، وهو يعتبر تركه حرا في الفضاء تقييدا لحريته لأن الفرد في هذه الحالة ينتفي شعوره بذاته من دون الجماعة.

فـ”ليست الفردية حرية في نظر البدوي، فالحرية عنده تنطبق على الجماعة، وذاتيته لا تكمن في كونه سيد نفسه، أو حريته الفردية، بل في كونه عضوا في قبيلة حرة، وفي تعبير شعري لدريد بن الصمة (عصر ما قبل الإسلام):

وما أنا إلا من غزية إن غوت   غويت وإن ترشد غزية أرشد” ص 19.

ومن زاوية أخرى يذهب الكاتب إلى استعصاء تحقق الحرية بشكل مثالي بل استحالته، حيث أن الإنسان سيظل محكوما بقوى أكبر منه اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، والسبيل الوحيد الذي يمكن أن يحقق الحرية أو الرضا النفسي بتحققها هو أن يتنازل عن شيء من حريته لصالح دولة تحكمها قوانين من شأنها أن تحفظ له ما استبقى من حريته.

كما يؤكد الكاتب على أن القوانين وحدها الكفيلة بتحقيق أكبر قدر من الحرية رغم أنه قد تحجب بعض الحرية بقوة القانون، أما الفوضى فهي تمنع ممارسة الحرية بالضرورة ولا تحققها أبدا ـ كما يظن بعض الناس ـ، فالحرية كظاهرة اجتماعية غير قابلة التحقيق في ظل التعسف والفوضى.

ثم إن العلم ـ في نظر الكاتب ـ ليس رديفا للحرية فلسفيا، وعبور حاجز الفكر الديني إلى المجال العقلاني لا يؤدي إلى الحرية بالضرورة، إذ قام كثير من الأنظمة الشمولية على أساس تصور كوني علمي للضرورات الطبيعية والتاريخية.

 إن الحرية ترتبط بالعقل والوعي، ولذلك كلما غيبت أحكام العقل بحلول المحركات الغريزية والرغبات الاعتباطية محل الإرادة الواعية والمسؤولة، تقترب ممارسة الحرية من مقابلها الطبيعي: العشوائية والفوضى، ويقترب معنى القانون من النقص الكامل للحرية فكرة وممارسة.