كثيرا ما يعجب القارئ حين يقف عند سير الأوائل – رضوان الله عليهم- وحدوث الفتن في هذا الزمن المتقدم من عمر الإسلام، وكان باب الفتنة المنكسر هو مقتل أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-، وهذا يعني أن زمن سلامة الفتن في الأمة كان هو العصر النبوي، ثم خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه-، ثم زمن الفاروق عمر، وهو عهد قصير جدا في تاريخ الأمة، فقد اغتيل عمر – رضي الله عنه- سنة (23هـ)، يعني بعد (36) عاما من عمر الإسلام، ثم بدأ عصر الفتن بزمن عثمان بن عفان  وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهم- ثم استمر في الأمة إلى يومنا هذا.

ويلاحظ أن الزمن الراشد انقسم إلى نصفين، أما النصف الأول، فقد كان خاليا من الفتن في الأمة، وهو زمن أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما-، والنصف الثاني، وهو زمن بداية الفتن، وهو زمن عثمان وعلي – رضي الله عنهما-، ورغم حدوث الفتن فيه، فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الزمن بأنه خير القرون على سبيل الإجمال، كما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه: قرنين أو ثلاثة؟ – ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن».

وإذا كانت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لزمن الخلفاء الراشدين أنه خير القرون، مع ما حصل فيه من الفتن، وما تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم من حصول ذلك في أحاديثه؛ علم أن حصول تلك الفتن في ذلك الزمن ليست من الشر المحض، ولا تطعن في خيرية هذه الحقبة التاريخية المهمة في زمن الإسلام.

غير أن الأهم في ذلك هو البحث عما تستفيده الأمة من حصول تلك الفتن، فما قدرت في تاريخ الإسلام عبثا، وما جاءت اعتباطا، وإن أخطأ فيها المخطئون، وإن زكاها المنافقون، لكنهم – والحال هذه- أنهم أدوات لأقدار الله الغالبة، ولإظهار حكمته البالغة، في أن هذه الفتن ستحصل في الأمة بل أكثر منها ضراوة، وأشد منها عداوة، فما على الأمة إلا أن تدرس تلك الحقبة حتى تستخرج منها منهج التعامل مع الفتن والمظالم.

ومن تلك الدروس ما يلي:

1 – الأخذ بالأسباب مقدم على إحسان الظن

إن الله تعالى بنى الدنيا على قانون السببية، فمن أخذ بالأسباب رزق التوفيق، وأن إحسان الظن بالأشخاص وحده لا يقيم دولة، ولا ينصر حقا، ولا يزيل باطلا، وقد امتدح الله تعالى أحد كبار الحكام الصالحين، وهو ذو القرنين؛ لعنايته بالأخذ بالأسباب التي كانت أحد أسباب قوته بعد توفيق الله تعالى له، فقال سبحانه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا .فَأَتْبَعَ سَبَبًا } [الكهف: 84، 85].

بل إن الناظر إلى الفقه الإسلامي ليجد أن الأسباب من أكبر أعمدته التي بني عليها، وأنه من أكثر الأمور التي احتلت منه مساحة شاسعة، وفي فقه قيام الأمم والحضارات يدرك كل عاقل أن الأخذ بالأسباب كان الدعامة الأولى لبقاء الأمم، وبناء الحضارات، وأن التخلف عن الأخذ بالأسباب كان من دعائم زوالها وإهانة أهلها.

2 – ميزان المصالح والمفاسد الشرعي

ومن أهم الدروس المستفادة من الفتنة في الزمن الأول مراعاة ميزان المصالح والمفاسد، لكنه ليس على سبيل الهوى والاشتهاء، ولا سبيل المحبة والاستعلاء، وإنما معياره ميزان الشرع الحكيم، فما كان فيه من مصلحة شرعية – لا دنيوية- قدم؛ لأن الدنيا تصلح بالدين وليس العكس، ولهذا جعل الشاطبي – رحمه الله تعالى- معيار المصالح والمفاسد هو الشرع الحنيف، والحكمة في ذلك أن معيار الشرع مستنبط من الوحي الذي لا يتطرق إليه خطأ، بخلاف العقل البشري حين يستند إلى مصالحه وهواه بعيدا عن ضابط الشرع؛ فتزل حينها الأقدام، ولا تتحقق المقاصد والغايات، ومصداق ذلك في كتاب ربنا سبحانه قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]

فكم من أهواء حكمت بعيدا عن المصلحة الشرعية، إلا أنها ألبست زي الشريعة، والشريعة منها براء؛ لأنها خرجت من رؤوس أهلها دون مراعاة لأحكام الشريعة، لأن أصحابها يظنون أنفسهم أنهم هم المتحدثون باسم الدين، فيتوهمون – خطأ- أن كل ما يخرج منهم إنما هو موافق للدين، وإن لم يكونوا أهل تخصص، وإن كانوا أهل صلاح وتدين، وشتان بين الأمرين.

3 – بركة الشورى

إن من أهم ما يستفاد من أحداث الفتنة التزام الشورى التي أمر الله تعالى بها، ووصف عباده المؤمنين الصالحين بالتزامها، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وأمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن يشاور أصحابه؛ تعليما لهم، وتدريبا عليها، وهو – عليه الصلاة والسلام- لم يكن بحاجة إلى مشاورة أصحابه، وهو المسدد بالوحي من الله تعالى، فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].

غير أن تلك الشورى يجب أن تكون أيضا وفق أحكام الشريعة لا وفق أهواء الناس، فتسبق الشورى مداولات وحوارات حول ما يحقق المصلحة بتجرد وإخلاص، حتى تستبين الأمور، ثم تجرى الشورى، فيؤخذ بها دون اعتراض أو محاولة للطعن فيها، لأن الشورى وإن كان ظاهرها رأي الرجال، لكنها في حقيقة أمرها تفويض الأمر لله تعالى حتى يقدر الخير الذي يعلمه بعلمه الذي أحاط كل شيء، ولأنهم سبحانه يعلم مالا يعلمه الناس.

ولهذا، نجد أن الحسين بن علي – رضي الله عنهما- اجتهد في خروجه، رغم أن غالب رأي الصحابة – رضوان الله عليهم – كان عدم الخروج، وكان هذا رأي عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، ورأي أخيه محمد بن الحنفية، غير أنه – رضي الله عنه- ما استمع نصيحتهم، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

4 – فن التفاوض

ومما يتعلم من الفتن أن من الحكمة أن لا يركب الناس رؤوسهم، بل عليهم أن يتحلوا بالحكمة والمرونة، وأن يكون عندهم فن التفاوض فيما يحقق المصلحة العامة، وهذا يؤخذ من الحسين – رضي الله عنه- حين أحاط به جيش عبيد الله بن زياد في كربلاء، بقيادة عمرو بن سعد وشمر بن ذي الجوشن، وحصين بن تميم، فلما رأى الحسين ذلك ناشدهم الله والإسلام أن يختاروا إحدى ثلاث أن يسيروه إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فيضع يده في يده، لعلمه أن يزيدا لا يريد قتله، أو أن ينصرف من حيث جاء من المدينة المنورة، أو أن يتركوه يلحق بثغر من ثغور الإسلام حتى يتوفاه الله، والرواية عند ابن جرير بطريق حسن.

لقد كان الحسين – رضي الله عنه – حكيما حين أدرك خطأ ما حصل، فحاول أن يستدرك حماية لأهله من القتل والأسر، فلم يركب رأسه بل تراجع للوراء، وترك ما كان قد خرج من أجله، حين علم أنه لن يحصل عليه، وفاوض جيش عبيد الله بن زياد لكنهم – عليهم من الله ما يستحقون- ما تركون ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قتلوه شهيدا رضي الله عنه.

وكذلك الأمر مما كان من طلحة – رضي الله عنه – فقد خرج مجتهدا، لكنه لما أدرك الأمر انسحب من ميدان القتال، ورأى أنه ليس من الحكمة أن يقاتل إخوانه، لكنه غدر به وقتل بعدما ترك المعركة.

5 – معيار المقاصد

ومن أهم ما يستفاد من أحداث الفتن أهمية معرفة مقاصد الناس في تصرفاتهم وخروجهم وتحركاتهم، لقد خرج بعض الصحابة إلى البصرة وعلى رأسهم طلحة والزبير ومع الجموع أمنا أم عبد الله عائشة بن أبي بكر – رضي الله عنها- فأرسل إليهم أمير المؤمنين – علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه-، فلما علم أنهم ما خرجوا عليه ، وإنما خرجوا لطلب قتلة عثمان في البصرة، فاتفق الفريقان على الصلح، لولا تدخل المنافقين الذين قسموا أنفسهم قسمين، قسم يذهب لمعسكر علي يجري فيهم القتل ليلا فيظن أنه فريق طلحة والزبير، وقسم يذهب لمعسكر طلحة والزبير فيظن أن القتلة من فريق علي، وهكذا وقت الفتنة، وكان من رحمة الله تعالى أنه لم يكن أحد من الصحابة مع هؤلاء الخارجين.

غير أن ما قام به معاوية – رضوان الله عنه – ومن كان معه من الشام من الاعتراض على أمير المؤمنين علي والمطالبة بقتلة عثمان، وما انتهت به الفتنة من قتل علي – رضي الله عنه- لم يحصل المقصود، وتولى الحسن بن علي ثم تنازل للحكم عن معاوية ولم يسمع في التاريخ أن معاوية – رضي الله عنه- قبض على قتلة عثمان، أو أنهم حوكموا، فلم كان الخروج؟!!!

إن من الحكمة في زمن الفتنة أن يحافظ على النفوس والأرواح، وألا تقدم رخيصة لأجل لا شيء، وأن جهاد المنافقين كما قرر الفقهاء لا يكون بالسيف، وإنما يكون بالكلمة والموعظة والإصلاح، وأن الخسائر في الأرواح والأعراض والأموال ليس من مقاصد الشارع في شيء، وإن حصلت – بقدر الله- فلتكن بأقل الخسائر، وأن الزمن جزء من العلاج، وأن البحث عن العلاج في الداخل خير وأولى، وأنه ما سلط الله تعالى على عباده ظالما؛ إلا بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، وأن الظالمين مهما أوتوا من القوة والجبروت، فإنهم لن يخرجوا عن سلطان الله تعالى، وأنه – سبحانه- مجازيهم على طغيانهم، بما يشفي صدور قوم مؤمنين بما شاء كيف شاء متى شاء، سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

وسيبقى زمن الفتنة الأول زادا للفتن المتلاحقة التي تتعلم منها الأمة ما يقيها طوفان الشرور، ما اعتصمت بالكتاب والسنة، وردت الأمة إلى أهل الاجتهاد من العلماء والمتخصصين، كما قال ربنا: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].