تحتل الحقوق والحريات من الفكر السياسي المعاصر مكانًا بارزًا؛ إذ إن المفاهيم والإجراءات الديمقراطية؛ من سيادة الأمة، وحكم الأغلبية، وحق المعارضة، ومن إجراء الانتخابات، وتكوين الأحزاب.. كل ذلك وغيره من مبادئ وإجراءات، إنما يقوم على حرية الإنسان، وبغرض حماية هذه الحرية، فيما يُعرف بـ “الحقوق والحريات العامة”.
وبحسب أحد الباحثين، فإن مركز الحريات في النظام الديمقراطي، يتضح “إذا عرفنا أن الحرية هي جوهر النظام الديمقراطي، وهي بهذا الوصف تُخضِع السلطة الديمقراطية لهيمنتها. وكما أن القواعد الدستورية تعد أسمى من القواعد التشريعية، فكذلك تعد مبادئ الحرية أعلى مكانًا من وسائل الديمقراطية وأوضاعها وأشكالها. فمركز (الحرية) في النظام الدستوري كوضع (النظام العام) في النظام القانوني كله؛ فإذا تعارضت المبادئ الديمقراطية مع الحرية، وجب تغليب الحرية؛ لأن الحرية هي غاية النظام الديمقراطي. ومبادئ الديمقراطية كلها وسائل لغاية أساسية هي كفالة الحرية للفرد وللجماعة، ولا يجوز أن تعطل الغايةَ الوسائلُ المستمدة لتحقيقها، كما لا يجوز تغليب الشكل على الجوهر”([1]).
مفهوم “الحقوق والحريات العامة”
تتخذ الحقوق والحريات أوصافًا مختلفة؛ فهي تارة تسمى بـ (الحقوق والحريات الفردية)، نظرًا إلى كونها امتيازاتٍ خاصةً للأفراد يمتنع على السلطة التعرض لها، وبسبب ما قام من ارتباط بين تقريرها والنظام الفردي، وتمييزًا لها من “الحقوق السياسية” التي تتضمن وضع السلطة في يد الشعب.
وتارة أخرى تُستخدم عبارة (الحقوق المدنية) للدلالة على تلك الحقوق والحريات. وكانت هذه التسمية شائعة في القرن الثامن عشر في فرنسا، ووردت كثيرًا في كتابات روسو؛ تمييزًا لها من “الحقوق الطبيعية” المستمدة من قواعد القانون الطبيعي والتي تثبت للفرد في كل زمان ومكان لمجرد كونه إنسانًا. أما الحقوق المدنية فتتقرر للفرد بوصفه عضوًا في جماعة مدنية منظمة. ولذلك بينما يكون القانون الطبيعي ثابتًا لا يتغير بزمان ولا مكان؛ فالقانون المدني يتغير من بلد إلى بلد، ومن عصر لآخر.
على أن عبارة (الحقوق والحريات العامة) هي الأكثر شيوعًا؛ نظرًا إلى أنها تتضمن امتيازات للأفراد في مواجهة السلطة العامة، وإلى أنها ليست مجرد حقوق للأفراد في مواجهة بعضهم البعض.. وفوق ذلك فإن صفة العموم تلحق هذه الحقوق بسبب كونها عامة لجميع الأفراد (وطنيين وأجانب) بغير تفرقة بسبب الجنس، أو السن، أو الكفاءة، أو المركز الاجتماعي أو الأدبي أو الاقتصادي؛ فهي حقوق يتساوى أمامها جميعُ الأفراد([2]).
ويرى بعض الباحثين أن “الحقوق والحريات العامة” تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
– الحقوق السياسية؛ وتشمل الحق في السعي إلى السلطة بالنسبة للأفراد والتنظيمات الحزبية، فضلاً عن الحريات السياسية وتضم: حرية التعبير والرأي، وحرية تشكيل الأحزاب السياسية، والتنظيمات السياسية.
– الحقوق الاجتماعية والمدنية؛ وتشمل حرية التنظيم، وإنشاء الجمعيات المدنية، وحرية الأفراد في الانضمام الطوعي لهذه الجمعيات، وحق الملكية، والحقوق المرتبطة بالعمل وتتضمن: حق الأفراد في الالتحاق بالعمل وتركه، وحقهم في التفاوض على المرتبات والأجور؛ من خلال إقرار حقهم في التفاوض الجماعي، وحرية تنظيم النقابات، وحق الإضراب.
– حقوق الإنسان؛ والتي تتعلق بحماية الجسد من إساءة المعاملة، والتعذيب المادي والمعنوي، واحترام الخصوصية الفردية، وحماية حق الفرد في التصويت في مكان خاص، وحرية الفرد في اختيار أسلوب حياته ومعيشته في إطار التنظيم المعمول به في المجتمع([3]).
الإسلام و”الحقوق والحريات العامة”
يؤسس الإسلامُ علاقاتِ الحياةِ كلَّها- كما يقول د. الترابي- على الخيار والحرية؛ فالعلاقة الأولى والأعلى بين العبد وربه- إيمانًا وتوحدًا إلى أمره تعالى عبر الغيب- خيار مشيئة لا تطبعه كَرْهًا الأقدارُ الربانية؛ وكذلك سبب الخلق- نكاحًا بين ذكر وأنثى- يشرع الدين ألا يقع بالقوة جبرًا وغصبًا، بل بالعقد المرضي، وتستمر مسيرته من بعدُ كلُّها بالتراضي والتشاور، لا إعضالاً وكَرهًا”([4]).
وموقف الإسلام من الحريات وصيانتها وتعزيزها، ينبع من رؤية الإسلام المتميزة في أنه يُقِرُّ بـ”الواحدية” لله سبحانه وتعالى وحده؛ أما ما دون ذلك من الخَلق- إنسًا أو حيوانًا أو نباتًا…- فقائم على التعدد والتنوع؛ قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49)، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13).
لأنه إذا كان موقف الإسلام في خَلق البشر يقوم على التعدد والتنوع، فمن الضروري أن يسلك الإسلام كلَّ السُّبل، ويوفر جميع الأدوات اللازمة؛ لحماية هذا التعدد والتنوع، بما يجعله شاهدًا على قدرة الله سبحانه، الذي خلقهم متمايزين في الألسنة والألوان، فقال تعالى: {وَمِن آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم: 22).
ولذلك ارتفع الإسلام بهذه الحقوق إلى مرتبة الواجبات والفرائض والضرورات؛ بحيث لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنها أو يفرّط فيها؛ إنما هو ملزَمٌ بالحفاظ عليها؛ فكما يقول د. عمارة: “لقد تميزت نظرة الإسلام إلى الحرية عن نظرات كثير من الفلسفات والأنساق الفكرية الأخرى؛ فالحرية في النظرة الإسلامية (ضرورة) من الضرورات الإنسانية، وفريضة إلهية، وتكليف شرعي واجب؛ وليست مجرد (حق) من الحقوق الإنسانية، يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد. فالرضا بالعبودية هو امتهان لمن كرّمه خالقه، واستخلفه في حمل أمانة استعمار الأرض، ورفع مقامه حتى على الملائكة المقربين؛ وفيه ظلم للنفس سيحاسب عليه ذلك الذي يرضى لنفسه الرق والاستعباد.
والحرية في الإسلام هي ضرورة إنسانية، لمطلق الإنسان، وليس للإنسان المسلم وحده. وعمر بن الخطاب عندما استنكر استعباد الناس- “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”؟!- كان (الناس) الذين يتحدث عنهم، غيرَ مسلمين”([5]).
وتوافقًا مع رؤية د. عمارة، يؤكد د. محمد فتحي عثمان أن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام، قد استوعب الاتجاهات الوضعية كلها، قديمًا وحديثًا، وتفوق عليها؛ وبين أن هذه الحقوق قد شملت:
– الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، والحريات العامة المتنوعة والمساواة.
– حقوق الرجال والنساء، بل الأطفال وهم “الذرية الضعاف” الذين تمتعوا بالرعاية الشرعية من جانب كل المؤسسات القائمة في المجتمع الإسلامي: الأسرة والجماعة والدولة.
– حقوق المسلمين وغيرهم، في داخل دولة الإسلام وخارجها؛ لأن “البر” في الإسلام إنساني وعالمي: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8).
– حقوق الفرد والجماعة والدولة على السواء؛ لأن “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هو واجب هؤلاء جميعًا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (التوبة: 71)([6]).
ضوابط “الحقوق والحريات العامة”
إذا كان الإسلام والفكر السياسي المعاصر يلتقيان في تقرير الحقوق والحريات العامة، وحمايتها، وصيانتها؛ فإنهما يفترقان في ضوابط تلك الحقوق والحريات.
ويرجع هذا الافتراق إلى اختلاف النموذج المعرفي الإسلامي عن النموذج المعرفي المادي؛ فبينما يقوم النموذج الأول على الإيمان بالله سبحانه- خالقًا للكون، ومستحِقًا وحده للربوبية والألوهية- وعلى الإيمان بالوحي- الذي هو من عند الله- قرآنًا وسنةً (على اختلافٍ بينهما، ليس هذا محل تفصيله)، وعلى أن الإنسان مستخلَف في الكون، ولم يُخلق عبثًا ولم يُترك سُدىً؛ بل له أجل هو صائر إليه، ومحاسَب فيه على ما قدم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
بينما هذه طبيعة النموذج المعرفي الإسلامي.. فإن النموذج المعرفي المادي- الليبرالي أو الماركسي- يقوم على إنكار الربوبية والألوهية، وعلى أن الإنسان سيد نفسه ومالِك أمره؛ ليس من سلطان على عقله وإرادته إلا عقله وإرادته!
ولذلك، فإن الإنسان في المفهوم الإسلامي له كل الحقوق والحريات لكن في إطار مفهوم الاستخلاف والعبودية لله سبحانه؛ بينما المفهوم الغربي يطلق العنان للإنسان دون قيد أو شرط.. مع ملاحظة أن الليبرالية تقدم حق “الفرد” على المجتمع، بينما الماركسية تقدم حق “الطبقة”- والطبقة العمالية وحدها!- لكنهما يشتركان في أن الإنسان هو سيد نفسه.
ولذلك يوضح د. عمارة أن “المدخل إلى هذه الفلسفة الإسلامية المتميزة في آفاق الحرية الإنسانية هو نظرة الإسلام إلى مكانة الإنسان في هذا الكون. فعلى حين ترى الفلسفات المادية الوضعية في الإنسان (سيد الكون)، فتحرر حريته من ضوابط الشريعة الإلهية، وأطر الحلال والحرام الديني؛ حتى يستطيع أن يحرِّم الحلال ويحلل الحرام إذا هو أراد! فإن الإسلام يرى الإنسان خليفة لله سبحانه وتعالى في عمارة هذه الأرض؛ له حرية، وإرادة، وقدرة واستطاعة؛ لكنها حرية الخليفة والنائب والوكيل، المحكومة ببنود عقد وعهد الاستخلاف.
فحرية الإنسان- وإن بلغت في الإسلام مرتبة الضرورة والفريضة- إلا أنها محكومة بحقوق الله سبحانه وتعالى، التي هي حدود الشريعة ومعالمها وفلسفتها في التشريع. وهنا، وبهذا الاتساق، تكون العبودية لله حرية وتحريرًا، وتكون الحرية الإنسانية ملتزمة بآفاق الشريعة وحدود لله ونطاق العبودية”([7]).
ثم يبرز د. عمارة بعض مشاهد تناقض الحرية الغربية، حين تطلق العنان للإنسان أمام حدود الله وحرماته، بينما تأخذ على يديه أمام حقوق إنسان مثله!!
فيقول: “فالحرية الإسلامية ليست هي تلك التي تحرِّم (العيب في الذات الملكية)، بينما هي تبيح (العيب في الذات الإلهية)! ولا هي تلك التي تجرِّم إهانة (عَلَم الدولة)، في ذات الوقت الذي تسمح فيه بإهانة (المقدسات الدينية)! ولا هي الحرية التي تقدس (الوضع البشري)، على حين تتحلل من (الوضع والتشريع الإلهي)! ولا هي التي تعلي من شأن المصلحة دون ضبطها بالمعاني الشرعية، لتكون مصلحة شرعية معتبرة”([8]).
إذن، يتضح لنا أن فكرة “الضوابط” بالنسبة للحقوق والحريات العامة، هي فكرة مقرَّرة وثابتة، في الإسلام، وفي غيره من المناهج والفلسفات الوضعية المادية.
غير أن الإسلام يربط “الضوابط” بأوامر الله وحدوده.. التي هي ليست- كما يزعم البعض- قيدًا على حرية الإنسان وتطلعاته وأشواقه، بل هي ترشيد وتنظيم لها؛ حتى لا تخرج عن المسار الأساسي للإنسان، وهو مسار العبودية والاستخلاف.
أما غير الإسلام، فإن يستمد “ضوابطه” مما يسميه “القانون الطبيعي”، وهو الذي يقوم على حاجات الإنسان المادية كما يراها العقل البشري؛ سواء أخذ هذا القانونُ في الاعتبارِ (الفردَ) في المقام الأول كما في الليبرالية، أو (الطبقةَ) كما في الماركسية.
([1]) “الحرية في الفكرين الديمقراطي والاشتراكي”، د. محمد عصفور، ص: 40. نقلاً عن “الشورى وأثرها في الديمقراطية، دراسة مقارنة”، د. عبد الحميد الأنصاري ص: 367، دار الفكر العربي، 1996م.
([2]) “النظم السياسية”، د. ثروت بدوي، ص: 383، 384، دار النهضة العربية، طبعة 2011م، بتصرف يسير واختصار.
([3]) من تقديم د. جهاد عودة للتقرير العربي السنوي عن “واقع الديمقراطية في العالم العربي”، منشور بمجلة “الديمقراطية”، ص: 7، عدد فبراير 1992م.
([4]) “السياسة والحُكم، النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع”، د. حسن الترابي، ص: 160، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2011م، لبنان.
([5]) “العطاء الحضاري للإسلام”، د. محمد عمارة، ص: 43، كتاب “اقرأ” رقم 626، سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن “دار المعارف”، بدون تاريخ.
([6]) “حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي”، د. عثمان. نقلاً عن “الدين والسياسة، تأصيل ورد شبهات”، د. يوسف القرضاوي، ص: 191، بتصرف، ط1، دار الشروق، 2007م.
([7]) “هل الإسلام هو الحل؟ لماذا وكيف”، د. عمارة، ص: 133، دار الشروق، ط2، 1998م.
([8]) المصدر نفسه، ص: 133.