يمثل كتاب (روح الشعوب) لمؤلفه أندريه سغفريد أحد أهم الكتب التأسيسية في محاولة الربط بين السيكولوجيا والجغرافيا، وهو من هذه الزاوية يختلف عن كتاب صديقه غوستاف لوبون (سيكولوجية الجماهير) الذي يقارب فيه المسألة من زاوية مغايرة، لكنه بالتأكيد كان ينظر إليه من بعيد كما يعكس ذلك عنوانه (روح الشعوب)، كما أن الكتابان معا يمكن أن يعتبر كتاب (انتقام الجغرافيا) لروبرت ديفيد كابلان مكملا لهما في إطار البحث عن العوامل الخارجية المؤثرة في نفسيات الشعوب وحركة الحياة والمجتمع.

يناقش الكتاب في فصله الأول ما إذا كانت الحربان العالميتان قد أثرتا في البنية الاجتماعية والنفسية للشعوب الأوروبية، ويرى أن هذه الشعوب لم تتغير رغم ما مر بها من ويلات وحروب وأن كل ما حدث هو تغييرات شكلية في الأمزجة والسلوكيات لا تلبث عن التدقيق حتى يظهر أنها مجرد فقاعات لا عمق لها في البنية العميقة للمجتمعات.

أما الفصول الأخرى فقد خصصها الكاتب لدراسة ستة من الشعوب الأوروبية وامتدادتها في أمريكا الشمالية (الفرنسسين ـ الإنجليز ـ الألمان ـ اللاتين ـ الروس ـ الأمريكان) ليختم كتابه بفصل سماه (الحضارة الغربية، تعريفها ومستقبلها)، وتعتبر الفصول الأهم في الكتاب هي تلك التي أخلصها لدراسة خصائص تلك الشعوب وبيان مالها من ميزات نفسية وأخلاقية وكذا دورها وإنجازها للحضارة الغربية، ولا يخفى على القارئ انبهار الكاتب بالشعوب الأوروبية وبالقارة الأوروبية وتعصبه لها إلى درجة أن يجعل القرب من جغرافيتها والتمثل لأخلاقها وأمزجتها معيار التميز والتقدم.

تحدث الكاتب أولا عن (البراعة) عند الشعب الفرنسي والتي يرى أن الفرنسيين استمدوها من امتزاج أعراق عدة انصهرت في تلك الأرض مشكِّلةً الشعب الفرنسي، وقد أثرى هذا التنوع العرقي المجتمع الفرنسي، “فنحن مدينون للاتينيين بصفاء الذهن وموهبة التعبير وللكلتيين بروحنا الفنية وبفرديتنا التي تندفع أحيانا فتصل حد الفوضى، وللجرمانيين بما فينا من عبقرية تنظيمية بناءة” ص55.

وإذا كانت هذا الانصهار العرقي أورث فرنسا قيم الحرية والمساواة وخصائص أخرى ممتازة فإنه منعها من الولاء للأرض حيث يتميز الفرنسيون بأنهم لا يشعرون بذلك الانتماء الذي تشعر به باقي الشعوب لأراضيها، كما يتميز الفرنسي ـ حسب سيغفريد ـ بتوازن عقلي وتركيز على المنطق، ويضرب مثالا على ذلك بأن أحد الإنجليز نبهه إلى ذلك عندما سمع أما فرنسية تقول لابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات:(كن منطقيا ـ sois raisonnable) بينما تقول الأم الإنجليزية له:(كن ولدا صالحا ـ be a good boy).

ثم يتحدث الكاتب عن الشعب الإنجليزي مبينا أن أبرز صفة في شخصيته العامة هي (العناد)، ويحلل سيغفريد العوامل البيئية والمناخية التي أثرت في الطبيعة النفسية لهذا الشعب، إن انجلترا عبارة عن صخرة تقع في جزيرة يعيش عليها عدد هائل من البشر، ثم إن المناخ الجليدي القاسي يفرض على الإنسان المقاومة لأن مقابلها هو الموت بلا رحمة تحت قسوة الطبيعة.

 إن المصير البريطاني من وجهة نظر سغفريد تحدده عوامل منها العزلة الناتجة عن الطبيعة الجزيرية والفتوة الإثنية لهذا الشعب”.. ونحن الفرنسيين ـ بوصفنا لاتينيين أو من سكان البحر المتوسط ـ قد خلفنا وراءنا ماضيا يرجع إلى أكثر من ألفي سنة، أما الإنجليزي فلا يستطيع مجاراتنا في هذا الميدان، ونتيجة لهذا فهو أقرب إلى الفطرة، وأقرب أيضا إلى البربرية الأولى منا، وهو يستمد من هذا تلقائية ونضارة لا نعرفهما نحن، كما يستمد من هذا تلقائية ونضارة (لدنة) لا نستطيع ـ نحن الفرنسيين ـ أن نألفها” ص82.

إن القوة الأخلاقية المعنوية التي طبعتها البروتستانتية في شخصية الإنجليزي أعطته عنادا وفردية شديدين، فهو فرد بذاته، والدين والسلوك في نظره مسألتان شخصيتان خصوصيتان لا تستدعيان بالضرورة وساطة إكليروس، إنه يشعر أن عليه أن يتصالح مع ذاته وضميره وهذه إحدى نقاط قوة الإنسان الإنجليزي.

يكره الإنجليزي ـ حسب سيغفريد ـ المنطق الفرنسي، كما أن له ذكاء قويا وهو يرى أن منطق ديكارت عدواني وغير بناء، فالفرنسي مولع بالبحث عن الحلول المنطقية”..أما أصدقاؤنا البريطانيون فإنهم أكثر حكمة لأنهم يعرفون أن الطبيعة ليست قابلة لمثل هذه الادعاءات، وفي رأيهم أن الحلول الوحيد التي يمكن الوصول إليها هي حلول مؤقتة هشة زائلة، وتحتاج إلى تصويبات وتعديلات دائمة. ففي زمن الملاحة بالشراع كانوا يرتبون السارية وموضع السفينة واتجاهها بحسب الرياح والتيارات التي تتغير بشكل دائم، فكان ذلك تكيفا مستمرا” ص86.

وقد امتد هذا السلوك عند الإنجليز إلى الحياة السياسية، فهم يتصرفون فيها بعقلية ربان السفينة الشراعية، حيث يتطور السياسي في جو عد الاستقرار بقبوله هذه القلقلة على أنها حقيقة لا يمكنه تبديلها، وهذا السلوك ليس لهم وحدهم بل مثلهم الصينيون والإيطاليون، وقد عبر رئيس الوزراء الإيطالي لوزاتي(1814 ـ 1927) عن هذا السلوك عندما اعترض عليه أحدهم بالقول:(لكن يا معالي الوزير، ليس هذا حلا)، فما كان منه إلا أن أجابه بلهجته المتأنقة:(ولكن يا صديقي العزيز، ليس ثمة من حلول أبدا).

من خصائص الانجليزي أنه يحترس من ذوي الذكاء اللامع خصوصا في المجال الفكري والسياسي، إنه يفضل القادة المضجرين نوعا ما ويقول عنهم:إنهم مأمونو الجانب(safe)، في حين أن تدبيرا صامتا يبعد من الحكم من يتميزون بالفصاحة الزائدة أو يتمتعون بمواهب بارزة، ويضرب سيغفريد مثالا على صدقية هذه الحقيقة حيث دعي لإلقاء محاضرة في كلية إيتون، فسأن أصحاب الدعوة:(كيف يجب أن أتحدث إلى الشباب)؟، فأجابوه بقولهم:(لا تكن لامعا)، وهي إجابة لا تحتاج إلى تعليق.

لقد أسهم الشعب البريطاني في الحضارة الغربية إسهامات جليلة خصوصا في الأعمال المالية والسياسية، ويرى سيغفريد أن نظام الاقتراض المالي حسنة بريطانية على الحضارة الغربية، ذلك بأنهم مارسوه بطريقة لم يسبقوا إليها، وتصوروه على أنه استجابة للثقة التي يستحقها الرجل الأمين الذي يوثق في كلامه أكثر مما يوثق في توقيعاته، ذلك أن عدم الثقة لا وجود له فيما بين الإنجليز، يقول:(وأعتقد أن انجلترا هي البلد الوحيد الذي في العالم الذي يسجل أمتعة المسافر من دون إيصال.

ملاحظة: الكتاب صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بترجمة عاطف المولى في ديسمبر 2015