بات من شبه المؤكد أن تحقيق التنمية الصناعية هو المدخل الوحيد لتحقيق النمو بسبب خصائص الصناعة وأهمية سلاسل القيمة المُضافة المتعلقة بها، ولذلك نصت الاستراتيجية الجديدة للتنمية العالمية (التنمية المستدامة) – التي حلت حديثا محل استراتيجية الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة – في أحد أهدافها الكلية علَى تحفيز التصنيع الشامل والمستدام..

ولكن الإشكالية التي يطرحها هدف التنمية الصناعية هي في هذه المعادلة المختلة بين نمو اقتصادي يتطلب تحريك القطاع الصناعي وتنميته من خلال تحصيل التكنولوجيا، وبين الآثار المصاحبة لهذه العملية التي تخلق الثروة ولا تخلق التنمية بالضرورة؛ إذ تترك في مراحلها المتقدمة بطالة وتفاوتًا اجتماعيا ومشاكل بيئية.

كيف نكسب رهان التنمية الصناعية؟

التصدير بهذه الإشكالية ضرورة تقتضيها الأمانة التخطيطية مع بلداننا، وإلا فإن السؤال الأكثر وجاهة هو أين هذه التنمية الصناعية التي نتحاشى مخلفاتها في بلداننا العربية؟ وهو سؤال ساخر مُحق، ولكن الايجابيات الكبرى لاعتماد إستراتيجية التنمية الصناعية ينبغي أن تتم بتساوق مع الاعتراف بخطورة “الحماس التنظيري” لها دون القدرة على رؤية المثالب المصاحبة..

المؤكد أن التصنيع في مراحله الأولى هو أكبر محرك للنمو الاقتصادي وكذلك للتنمية الاجتماعية بفعل كثافة العمالة التي تتيحها الصناعات التحويلية في مراحلها الأولى، أي تماما بالنسبة للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.

والآن؛ كيف نكسب رهان التنمية الصناعية؟

ـ التكنولوجيا .. ابتكارا أو تكييفا أو نقلاً؛  ففي التجارب الناجحة للبلدان التي حققت تنمية صناعية كانت التكنولوجيا دائما هي المحرك الأساسي لتلك النجاحات، وإذ يشكل نقل التقانة حلما صعبا لم يعد أمام البلدان النامية سوى السعي للابتكار من خلال بيئة تشجع التطوير والاختراع بدءً من البحث العلمي إلى جسر الهوة بين المخابر والمعامل في شراكة بين العلم ورواد الأعمال، وهو ما يمكن أن يتم من خلال رعاية الرواد والمؤسسات الصناعية للبحوث التقنية؛ تمويلا وتجريبا.

وهو عمل رديف لاستثمار الحكومات في رأس المال البشري؛ فالتعليم والتدريب وتحقيق التنمية البشرية وتنمية القدرات وتأهيل المهارات كلها تشكل الشروط الممكِّنة من دخول عصر الصناعة من خلال العمالة الماهرة، فضلا عن أنها السبيل لكسب رهان تبيئة التقانة وتحقيق الابتكار الذي يشكل أهم مقومات النهضة عموما.

– الأيدي الصناعية المتشابكة؛ ونعني به السعي لإيجابيات الترابطات الأمامية والخلفية في الصناعات التحويلية التي تتيحها السياسات التي تكيف عملية التصنيع لاستخدام الموارد واختيار الصناعات الوسيطة المتشابكة، وقد خلص أحد تقارير التنمية الصناعية للمنظمة الدولية المختصة إلى” أن مد نطاق التنويع في الصناعات التحويلية يمكن أن يحقق متوسط معدلات نمو سريعة، كما يؤدي إلى فترات أطول للنمو وثبات أقل في النمو، ومن ثم تحقيق استدامة النمو في الأجل الطويل”.

– مصيبة قطاع الخدمات الخُداج؛ غالبا تتسم مراحل نمو القطاعات في اقتصادات البلدان السائرة في طريق النمو باختلال ظاهر، إذ يصاب القطاع الصناعي باختناق بفعل التخلي عن التركيز على نمو الصناعات التحويلية في مراحل مبكرة لصالح نمو غير مؤهَٓل لقطاع الخدمات، وينشأ هذا المشكل بسبب الانتشار الواسع الذي يغري به ظهور بعض الأنشطة الخدمية على هامش النمو الأولي المتحقق بسبب من القطاعات الأخرى، فالنمو الطبيعي للاقتصاد يكون بالانطلاق من قطاع أولي (الزراعة) يحقّق القنطرة التي ينمو عليها القطاع الثاني (الصناعي) بكافة فروعه، والتي تشكل الصناعات التحويلية أهمها، ثم يفرز القطاع الصناعي القطاع الثالث (الخدمي) بعد نضوج الثاني، أما النتيجة التي يؤدي إليها القفز السريع إلى مرحلة قطاع الخدمات فهي وأد عملية التصنيع ونشوء أنشطة خدمية غير ذات خدمة اقتصادية وغير إنتاجية، والنتيجة تراجع النمو وتفاقم مشكل التنمية الاجتماعية.

وهذا يعني أن السياسات التي لا تساهم في استمرار عملية التصنيع كسياسات التقشف المالية التي تعيق نمو الاقتصاد الحقيقي أو سياسات الانفتاح التجاري (سياسات التحرير الجمركي) التي تقضي على حمائية الصناعات في أطوارها الأولى، هي سياسات خطيرة على استمرار النمو بفعل وأدها لتطور القطاعات الطبيعي، ولتفريطها في الديناميكية المحركة التي يكون القطاع الصناعي لا زال قادرًا على منحها للاقتصاد ككل.

من النمو إلى التنمية

فضائل الانتقال إلى اقتصاد حديث من خلال الصناعة وتحقيقها غالبا لمستويات نمو مرتفعة أمر لا بديل عن السعي إليه لبلدان الجنوب، وخصوصا أن الصناعات هي التي تضمن الانتقال من مرحلة الدخل المنخفض إلى مرحلة البلدان متوسطة الدخل ومرتفعة الدخل، إلا أن هذه المكاسب في الدخل ينبغي أن لا تحجب الجوانب المتعلقة بالتنمية، فالتنمية مفهوم شامل يغاير عملية نمو الدخل ويشمل جوانب توزيع الدخل العادلة وضمان تساقط ثمار النمو بشكل عادل، وهو أمر لا تضمنه عملية التنمية الصناعية في مراحلها المتقدمة، فالتغير الهيكلي الذي تُنادي به أدبيات التنمية الصناعية المرتكزة على التكنولوجيا يعني ببساطة التضحية بالبنية الاقتصادية القائمة على استخدام كثيف للعمالة وإحلال رأس المال محلها، وهو ما يسبب موجات البطالة والتغير في بنية قوة العمل؛ فالعمالة الماهرة وحدها هي القادرة على الصمود في ظل استخدام أوسع للآلة التي يزداد تعقيدها يوما بعد يوم..

وهو ما يعني أن هدف التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشامل سيكون موضع تحد حقيقي..ولذلك يشير (إعلان ليما) الذي تم اعتماده سنة 2013 في الدورة الخامسة عشرة للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) إلى هذه الإشكالية من خلال التأكيد على أن ” القضاء على الفقر يبقى الحتمية المركزية. ويمكن تحقيق هذا فقط من خلال النمو الصناعي والاقتصادي القوي والشامل والمستدام القادر على الصمود، والإدماج الفعّال للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة”.

وفي حقيقة الأمر فهذه الجدلية تلخص أهم المشاكل الايديولوجية للتنمية المعاصرة، وهي تظهر بشكل أكثر حدة في أطروحات اقتصاد السوق، ولعل العبرة المهمة فيها في موضوع الصناعة ـ الذي بين أيدينا الآن ـ أنه إذا كان لا مناص من كسب رهان التنمية الصناعية ـ التي تشكل التكنولوجيا المتوسطة والعالية شرطها ـ فإن السيناريو الكئيب لتحول التنمية الصناعية إلى عملية تنموية غير متوازنة (اجتماعيا وبيئيا) ليس أمرا حتميا إذا تم الإعداد لعملية الانتقال الصناعية من خلال تنمية بشرية واسعة تضمن أن تشكل التكنولوجيا رافدا للتنمية في كل مراحلها لا عبئا تاليا عليها.