عاش علم الفقه والاجتهاد في نصوص الشريعة سنوات عجاف أعلن فيها غلق باب حرية الاجتهاد والتفكير، واستمر الفتور الفقهي بدءا من القرن الرابع إلى عصرنا الحالي، وقد وصف العالم المغربي محمد الحجوي هذا الطور للفقه الإسلامي بمرحلة الشيخوخة والهرم المقرب إلى الموت، لأن الفقه وصل إلى منتهى قوته في القرون الأربعة السابقة، وتم نضجه، فزاد بعد حتى احترق، وذهبت عينه، ولم يبق إلا “مرقه” في القرن الخامس وما بعده إلى أن صار الآن أثرا بعد عين.
واعتبرت من أسباب هذا الضعف والوهن في عصور تبعت فترة التدوين والاجتهاد الفقهي أمور:
– قصور الهمم عن الاجتهاد وإلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية والاختيار منها، يقول الفقيه سعيد بن الحداد القيرواني : “إن الذي أدخل كثيرا من الناس في التقليد نقص العقول، ودناءة الهمم. وصرفت الجهود إلى النقل وشرح كتب المتقدمين واستيعابها”.
يقول الحجوي: “فكرة الاختصار ثم التباري فيه مع جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل هو الذي أوجب الهرم، وأفسد الفقه، بل العلوم كلها كما يأتي إيضاحه؛ إذ صاروا قراء كتب لا محصلي علوم” . [الفكر السامي 2/189].
ويصف هذه الحالة عبد الوهاب خلاف بقوله : ” وقفت حركة الاجتهاد والتقنين، وماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري، فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة، بل راضوا أنفسهم على التقليد، ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأقرانهم، وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها”. [أصول الفقه الإسلامي وخلاصة تاريخ التشريع 260].
– انعدام الاستقرار السياسي في المدن الإسلامية الكبرى، لا شك أن مذاهب الفقهاء التي كتب الله لها البقاء إلى يومنا هذا وجدت بيئة إسلامية مستقرة تشجع على البحث والتحري للوصول إلى الأحكام الشرعية، وساعدت العلماء على إنماء ذكائهم الفكري والعلمي، وكانت ثقة العامة بعلمائها منتهى النظير، مما دعا إلى تدوين فتاواهم ومذاهبهم..
لكن هذه الحالة لم تدم طويلا حين تدهورت الحالة السياسية في البلاد الإسلامية، وانقسمت الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها، وأدى هذا الانقسام إلى شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن، واتقاء المكايد، وتدبير وسائل القهر والغلبة، وشغل الناس معهم، فدب الانحلال العام وفترت الهمم في العلوم والفنون، وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع.
وفي هذه الممالك أو الدويلات اعتمد ولاتها على تشريعات تناسب عقيدتها ودعواها، وانتمت كل دولة إلى أحزاب لها أفكار وتشريعات معينة، يقول مناع بن خليل القطان : ” إن افتراق الناس بين أحزاب فكرية كذلك أكدت على هذا الضعف في التفقه والاجتهاد، فقد برزت ثلاث طوائف، خوارج وشيعة وأهل السنة والجماعة، ولم يكن شر هذا الانقسام إلى: شيعة، وخوارج، وجماعة، قاصرا على الضرر المادي في حياتهم؛ بل نشأ شيء آخر ليس أقل من ذلك خطرا، وهو اختلاف المسلمين في الرأي، وتفرقهم في الدين نفسه فجعل بعضهم يكفر بعضا، ويسيء الظن بالآخر، وقامت الحياة بينهم على السيف أحيانا في ثورات متلاحقة… وهكذا أصبح لدى كل فريق من الفرق الثلاث فقهه في الأصول والفروع. [تاريخ التشريع، ص 262-263].
دعا الانتماء المذهبي أو الطائفي إلى الجمود والتقليد والتشريع للفكر المذهبي بدلا من إفادة المجتمع الإسلامي الواسع، فاقتصرت جهود الناس على خدمة الطائفة والانتصار لها، وإبراز أصولها وتأييد فروعها بكل الوسائل.
حرية الاجتهاد
برزت جهود جديدة بمحاذاة هذا الضعف في العطاء الفقهي أرادت تخطي هذا التقليد المتوارث من منتصف القرن الرابع إلى العصر الحالي، ورأت ضرورة توحيد المذاهب الفقهية، وكان من أولى خطواتها ما يأتي:
أ – (مجلة الأحكام العدلية في سنة 1286هـ، وصدر الأمر بالعمل به في سنة 1292هجرية)، جمعت الحكومة العثمانية طائفة من كبار علمائها، وكلفتهم وضع قانون في المعاملات المدنية تكون مآخذه الفقه الإسلامي، ولو من غير المذاهب المعروفة متى كان الحكم المأخوذ يتماشى مع روح العصر.
ب – قانون شامل لأحكام الأحوال الشخصية، حيث سعت الحكومة المصرية سنة 1936م بعد عدة محاولات في الخروج من دائرة التقليد، حيث لا تتقيد بمذهب دون مذهب بل تأخذ من آراء الفقهاء أكثرها ملاءمة لمصالح الناس والتطور الاجتماعي.
يقول عبد الوهاب خلاف: “وعسى أن نخطو الخطوة الرابعة، ونأخذ في سنن القوانين الشرعية التي تحقق مصالح الناس، وتساير روح العصر وتطوراته، بما لا يخالف نصا في القرآن والسنة الصحيحة، ولو لم تكن مأخوذة من مذاهب السابقين. وبهذا يبعث النشاط التشريعي الإسلامي من مرقده، ويحيا الفقه الإسلامي بالتطبيق العملي والدراسة المقارنة، وما ذلك على الله بعزيز”.
بالمقابل يرى الشيخ الحجوي اختيارا آخر، وهو تمرين الطلبة على الاجتهاد والنظر في الآيات القرآنية والعود بهم إلى منهاج أهل الصدر الأول في حرية الفكر، بدل تضييع الوقت وابتذال الجهود في توحيد المذاهب
يقول الحجوي : “وليتنا نمرن طلبة الفقه على النظر في الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام وحفظها وفهمها فهما استقلاليا يوافق ما كان يفهمه منها قريش الذين نزل بلغتهم، وعلى النظر في السنة الصالحة للاستدلال وحفظها وإتقانها وفهمها، كذلك، ونمرنهم على قواعد العربية، وأصول الفقه، ثم نترك لهم حرية الفكر والنظر كما كان عليه أهل الصدر الأول، ولن يصلح آخر الأمة إلا ما صلح عليه أولها، وهذا العمل أنجح من السعي في توحيد المذاهب، أو ترجيح أحدها:.
وبين رأي عبد الوهاب خلاف والحجوي – وهما متعاصران – أمل في ترك التقليد المطلق وإعمال الفكر بما يوافق هدي الكتاب والسنة على أساس منهاج الصدر الأول، والتنشيط للفكر الاجتهادي بين رواد علم التشريع الإسلامي، لكن هل هذه الغاية ظلت حلما أم تحققت عبر علماء القرن الواحد والعشرين؟