ما إن يقدم شهر رمضان إلا وترى المصاحف قد نشرت بين أيدي الصائمين، لتلاوة القرآن، وهُرع كل حريص إلى مصحفه الذي كان قد خاصمه منذ سنة، فينفض التراب الذي كسا أوراقه، ويأخذ في تلاوة الآيات في سباق لاهث محموم، يُسابق عقارب الساعات، عساه ينتهي من ختمة، بل ختمات قبل أن يلملم رمضان رحاله، ويستقبل الناس شهر شوال.

وهذا أمر، لا شك أنه محمود، فمن يمكنه أن يشكك في  قدسية الجلسة القرآنية، التي يتلو فيها العبد كلمات ربه!

لكن غير المحمود، أن يتصور المسلم أنه قد أدّى ما عليه بمجرد التلاوة!

لكن غير المحمود، أن يتصور المسلم أن التلاوة فحسب ترقيه في الجنان، وتقربه من الرحمن!

نعم، هناك أحاديث في فضل القرآن تلاوة وحفظًا، لكنها لا تُعفي من بقية الواجبات.

نعم، القرآن، هو النص الوحيد الذي يُتعبدُ بتلاوته، لكن هذه التلاوة لا تُغني عن الصلاة مثلا أو الصيام.

أعلم أن أحدًا، لا يذهب به العقل أن التلاوة تُعفيه عن الصلاة والصيام، وأن القارئين التالين يصلون ويصومون، ولكن،  ألا يوجد واجبات يقررها القرآن غير الصلاة والصيام!

أهل القرآن هم العاملون به

الحديث عن تلاوة لا يتبعها عمل حديث مزلزل، تشيب له الولدان، وهذه طائفة منها:

1-عن النواس بن سمعان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتي بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) .[1]

لاحظ جملة (وأهله الذين كانوا يعملون به) فهذا قيْد، قيَّد جميع الأحاديث المطلقة التي جاءت في هذا المعنى، أي أن هذا الفضل لمن ( يقرأ + يعمل) ويُحرم منه من ( لا يقرأ ولا يعمل) كما يُحرم منه من ( يعمل ولا يقرأ).

قال البغوي : “يُفهم منه أن مجردَ التلاوة لا يجعل الشخصَ من أهل القرآن ما لم يعمل به، الضمير راجع إلى (القرآن).”[2]

وقال المظهري : “هذا إعلامٌ بأنَّ من قرأ القرآن ولم يعملْ به – أعني: لا يحرِّمُ حرامَهُ، ولا يحلِّلُ حلاله، ولا يعتقد عظمته وحرمته – لم يكن القرآن شفيعًا له يوم القيامة، وليس له حظٌّ من تلاوته.”[3]

وقال القاري : “دل على أن من قرأ ولم يعمل به لم يكن من أهل القرآن ولا يكون شفيعا لهم، بل يكون القرآن حجة عليهم”[4]

2- عن أبي مالك الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن – أو تملأ – ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها»[5]

فانظر، جعل الحديث الموقف من القرآن، اثنين لا ثالث لهما، إما أن يكون حجة لك؛ وذلك باتباع تعاليمه، وإما أن يكون حجة عليك بالإعراض عن تعاليمه، وليس هناك موقف ثالث، فالقارئ دون اتباع، يقع في وادي ( حجة عليك).

قال البغوي : “والقرآنُ حُجَّةٌ لك”؛ أي: دليلٌ على نجاتك وفوزك إنْ عملتَ به. “أو عليك”؛ أي: دليلٌ على سوء حالك إن أَعرضتَ عنه ولم تَعملْ به.”[6]

وقال المظهري :”والقرآن حجة لك أو عليك”، اللام للنفع، و (على) للضر.

يقال: الحق له، يعني: مُلْكُه، والحق عليه، يعني: واجبٌ عليه أداؤُه، يعني: القرآن إما ناصرُك ومنجِّيك من عذاب الله، وإما خصمُك ومُهْلِكُك، فإن عَظَّمْتَ قَدْرَه، وعملت بما فيه فهو ناصرك، وإلا فهو خصمك.”[7]

وقال القرطبي :”يعني أنك إذا امتثلت أوامره؛ واجتنبت نواهيه، كان حجة لك في المواقف التي تُسأل فيها عنه، كمسألة الملكين في القبر، والمسألة عند الميزان” وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثل ذلك احتُجّ به عليك”.

وقال النووي: ” وأما قوله صلى الله عليه وسلم والقرآن حجة لك أو عليك فمعناه ظاهر، أي تنتفع به إن تلوته وعملت به، وإلا فهو حجة عليك”[8]

وفي جامع العلوم والحكم : قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن، فقام عنه سالما؛ بل إما أن يربح أو أن يخسر، قال الله عز وجل: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} [الإسراء: 82] [الإسراء”.[9]

3-  عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار”[10]

فانظر حيثية امتداح حافظ القرآن : أنه يتلوه آناء الليل، وهذا مفهوم أنه يكون بالقيام، ولكن كيف يكون القيام بالقرآن آناء النهار؟ الأظهر أن المعنى العمل به؛ لأنه ليس في النهار قيام!

4- عن عمرو بن العاصي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن أكثر منافقي أمتي قراؤها ” [11]

قال العيني : ” أراد بالنفاق هاهنا الرياء، لأن كليهما إظهار ما في الباطن”[12]

فليحذر قارئ القرآن ، أن يكون ممن يقرأ القرآن، وهو يلعنه، وهذه طائفة ممن لعنهم القرآن، حتى لو لهجوا يذكره:

قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [البقرة: 159]

وقال تعالى : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء: 93]

وقال تعالى : {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13]

وقال تعالى :{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78، 79]

وقال تعالى : {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [الأعراف: 44]

وقال تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود: 18]

وقال تعالى :” { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]

وقال تعالى : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (} [النور: 6 – 9]

وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]

وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [الأحزاب: 57]

وقال تعالى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر: 52]

وقال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22، 23]


[1] – رواه مسلم، رقم (805)

[2] – شرح المصابيح لابن الملك (3/ 19)

[3] – المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 72)

[4] – ” مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1461)

[5] –  رواه مسلم رقم (223)

[6] – شرح المصابيح (1/ 227)

[7] – ” المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 347)

[8] – شرح النووي على مسلم (3/ 102)

[9] – ” جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/ 26)

[10] – متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1/ 156)

[11] –  رواه أحمد مسند أحمد ط الرسالة (11/ 210)، وقال محققوه : صحيح، وكذا صححه الألباني في الصحيحة، حديث رقم (750)

[12] – شرح أبي داود للعيني (3/ 23)