تعيش المجتمعات البشرية أنواعا من الاحتقان الطائفي، سواء كان هذا الاحتقان الطائفي مرده اختلاف الدين والعقيدة، أو مرده الاختلاف المذهبي داخل الدين الواحد، أو مرده العرق، أو مرده الجنسية، أو مرده اختلاف البلاد، أو اختلاف الثقافات، بل و اختلاف الأفكار أيضا.

وقد يكون هذا الاختلاف نابعا من المجتمعات البشرية، أو بناء على اختلاف المصالح. لكن يبدو أن الاحتقان الطائفي القائم على اختلاف الدين هو الذي أضحى أكثر انتشارا، بل وتسلط الأضواء عليه، وعلى وجه الخصوص الاحتقان الطائفي بين المسلمين والنصارى في بلاد المسلمين، حيث المسلمون كثرة والنصارى قلة، رغم أن هناك احتقانا طائفيا بين المسلمين وغيرهم في البلاد التي يكون المسلمة فيها أقلية، ورغم اضطهاد وقتل المسلمين، إلا أن آلة الإعلام تسلط الضوء على بعض الأخطاء الفردية التي لا تمثل منهجا، بل هي من تصرفات بعض المسلمين الخاطئة تجاه بعض النصارى، وهم أبناء وطن واحد.

ومثل هذا الاحتقان العقدي من الواجب دراسته والوقوف على أهم أسبابه، بدراسة منصفة متأنية، لا يقصد بها نصرة فرقة على أخرى، ولا محاولة أخذ بعض المكاسب لطائفة دون أخرى، إنما المقصود بها وضع حلول لتلك الإشكالات الحاصة بين الطوائف المختلفة التي تعيش في وطن واحد.

وهناك عدد من القواعد الحاكمة التي تضبط العلاقة بين المختلفين في الدين وهم في وطن واحد، ومن أهم تلك القواعد:

– حرية الاعتقاد ليست سببا في الاحتقان الطائفي: إن الله تعالى خلق الناس وهو يعلم أنهم سيكونون مختلفين في الاعتقاد، وإن كان الله تعالى أمر الناس جميعا بالإيمان به، كما قال {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } [النساء: 47]، على أن حساب الناس على الكفر والإيمان إنما مرده إلى الله تعالى، وأن الحكم على الناس بالجنة والنار هو من جانب الناس مجرد اعتقاد، وإنما الجزاء يكون لله تعالى، ومن هذا، فإن الاختلاف في العقيدة، وأن الحكم على الطائفة الأخرى بالكفر لا يستتبعه اعتداء أو إجبار، لأن الإسلام تكفل للناس حرية الاعتقاد، بل وممارسة الشعائر، كما قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، فقد أبان الله أنه أعطى الإنسان الحرية في اختيار العقيدة، ثم أبان أن من اختار الإيمان على الكفر، فقد فاز عنده في الآخرة.

وقرر القرآن حرية الاعتقاد، ثم عقب بأن من يكفر؛ فجزاؤه جهنم يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29].

ويلاحظ أن الآيتين قررتا حرية الاعتقاد، وجعلتا العقاب في الآخرة، وليس في الدنيا، ومن هنا، لا يكون الاختلاف في الاعتقاد سببا للاعتداء والتحارب بين الطوائف المختلفة، وأن الذي يجازي العباد على كفرهم إنما هو الله تعالى.

ومن هنا، كان الاعتداء على المختلفين في العقيدة حرام شرعا، ولأجل صون النفس الكافرة في دولة الإسلام، أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذمة الله وذمته، حتى إذا فكر بعض المسلمين في أذيتهم، فكأنه آذى الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم:” من آذى ذميا، فقد آذاني”، وهي صورة شنيعة، يصور فيها النبي صلى الله عليه وسلم المعتدي على أهل الكتاب ظلما وعدوانا أنه يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدفع بقية المجتمع المسلم إلى نصرة الكافر المظلوم في المجتمع المسلم، لأن هذه من شعائر المسلمين في مجتمعاتهم.

– العيش على أساس المواطنة: إن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الاحتقان في المجتمعات هو عدم اعتبار المواطنة من الطرفين، ففي بعض المجتمعات بعض الطوائف بمعيارين، ففي حالة الشكوى يتعاملون من منطلق الدين وليس من المواطنة، وفي حالات أخرى يتعاملون من باب المواطنة لا من باب الدين، والواجب أن يكون التعامل من باب المواطنة، فحين يحصل خطأ، فيشتكى على أساس أنه خطأ ومخالفة للقانون، لا أن يصعد الأمر على أنه اضطهاد ديني في كل التصرفات.

فيجب أن يكون الجميع سواء أمام القانون، وأن تتم محاسبة كل مخالف بعيدا عن اعتبار المعتقد، وإنما على أساس المواطنة.

– الاستقواء بالخارج: ومن أبرز الأخطاء التي تقوض روح المواطنة، وتزيد الاحتقان الطائفي هو استقواء بعض الطوائف بالخارج، حتى على الدولة نفسها، فهذا يعني طعنا في وطنيتهم، لأنهم لو كانوا مواطنين حقا؛ لكان لجوؤهم إلى قانون الدولة التي يعيش فيها لا أن يستقوا بالدولة الكبرى التي تدين بدينهم، لأن هذا استقواء بالدين على المواطنة، وهو نفس المنطق الذي يشتكون منه، فيما يرونه من بعض الأخطاء التي تقع عليهم ممن يخالف دينهم.

– الانطلاق من المتفقات لا المخالفات: إن عيش المختلفين في المعتقد ينبني على التوافق في أمور الدنيا وليس أمور الدين، بمعنى أن الاشتراك والتعاون والتكافل بين تلك الطوائف المختلفة يجب أن ينطلق من قاعدة المواطنة والعيش المشترك، وليس في الحديث عما يعرف بوحدة الأديان، لأن الأديان الموجودة الآن ليست واحدة، بل هي مختلفة تماما، وأن أمر الدين، إنما هو لله تعالى، الذي يجازي المؤمن على إيمانه، والكافر على كفره، وإنما التعاون يكون في القضايا المجتمعية، مثل قضايا التعليم، وقضايا الصحة، وقضايا البيئة، وقضايا الأسعار، والقضايا التي تتعلق بالحريات وغيرها من القضايا التي يشترك فيها أبناء الوطن الواحد، والتي تصب في صالح الجميع من الناحية الإنسانية والاجتماعية، أما ما يتعلق بالجانب الديني، فأرى أنه ما ينبغي الحديث في الأمور المختلفة، وإنما يتعاون في الأمور المتفق عليها بين الأديان، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأخلاق والسلوك الذي ينطلق من الدين، منظما حالة المجتمع بجميع أطيافه.

وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم دستور المدينة، وكان أول دستور مدني في تاريخ البشرية، وهو دستور قد قبل التعددية الدينية والتعددية العرقية وكل أنواع الإثنايات، وهذا يعني أن بنية الدولة الإسلامية قابلة لهذه التعددية التي لم تهتد لها الدول إلا في القرون الحديثة.

– خطاب التجميع لا التفريق: في بعض الدول يخاطب بعض رجال الدين أتباعهم بناء على الديانة والمعتقد كأن الناس شعوب في الدولة وليس شعبا واحدا، فكثيرا ما نسمع بعض القساوسة ينادون أتباعهم ( أيها الشعبي المسيحي)، فمثل هذا الخطاب يقسم الناس في الدولة شعوبا متناحرة، ويزرع العداوة والبغضاء بين الناس مع اختلاف المعتقد، بل الواجب أن يفكر الناس في حقوقهم بناء على قاعدة المواطنة، وإن كان هناك بعض الأخطاء التي تقع بناء على اختلاف الدين، فعلى الدولة أن تعالج تلك الظاهرة، من خلال تغيير الوعي، خاصة من خلال وسائل الإعلام المتنوعة، وأولها الإعلام الديني، وأن يكون التغيير الفكري هو المرتكز الرئيس،  وألا تكون المعالجة الأمنية هي الطريق الأوحد، وإنما تكون العقوبة إذا اقترفت جرائم قانونية، لا أن تكون هناك عقوبات خارج القانون، لأن هذا يأزم الموقف أكثر، ويشغل الفتنة، ولا يطفئها، ويشعر الطوائف باضطهاد الدولة، خاصة إن كانوا هم الأغلبية العددية.

قيام الدولة بدورها: إن من واجب الدولة القيام بالعدل بين الطوائف المختلفة، دون التحيز لطائفة دون أخرى، فالناس عيال الدولة، وهي مسئولة عنهم جميعا، بل من العجيب أن تقوم بعض الدولة بإحداث الفتنة بين الطوائف، ظانة أن هذا مما يثبت حكمها، بل الواجب على الدولة أن تكون بمنزلة الوالد للأبناء، تحاول أن تجمع الشتات، وتوحد الكلمة، وأن تسعى دوما إلى أن تكون العلاقات بين أفراد الشعب قوية متينة، وأن تحافظ على أرواح الناس وممتلكاتهم، وأن تهيئ الأجواء لعلاقة سليمة، وأن تذلل الصعاب في سبيل ذلك.

إن علاج الاحتقان الطائفي لا يكون بالنظر السطحي، بل يكون بالنظرة العميقة الباحثة عن الأسباب والدوافع، منطلقة بعدها للبحث عن سبل العلاج التي لا تعالج عرضا، بل تعالج المرض من جذوره، وقد تكفل الإسلام بمبادئه السمحة التعايش السلمي بين المختلفين في العقيدة على أرضه، وأن الوطن في الدولة الإسلامية يتسع الجميع.